الصناعة السورية: صدمة السوق المفتوح تتطلب تدخلاً عاجلاً
الاقتصاد اليوم:
بقلم : فراس عناية
بعد سنوات طويلة من العمل في سوق مغلق ومحمي وجد الصناعي السوري نفسه فجأة في قلب معركة غير متكافئة , الانفتاح الاقتصادي فتح الأبواب أمام منتجات مستوردة من كل أنحاء العالم بأسعار تنافسية وأساليب تسويق حديثة، ليكتشف الصناعيون المحليون أن خبرتهم الطويلة في الإنتاج لم تعد وحدها كافية للبقاء لان المشكلة الأعمق اليوم ليست في المنافسة بحد ذاتها، بل أن شريحة واسعة من أصحاب المصانع والورش لا يملكون الأدوات أو المعرفة اللازمة لخوضها
جوهر الأزمة: سوق مغلق خلق راحة زائفة
على مدى سنوات، عمل الصناعي السوري في بيئة اقتصادية شبه مغلقة، لا منافسة فيها تقريبًا ولا مستهلك واعٍ يختار بناءً على الجودة والسعر.
في تلك المرحلة كانت معظم المنتجات المحلية تُباع بمجرد طرحها في السوق واحياناً بأسعار اعلى من مثيلاتها في الأسواق العالمية وبمواصفات اقل فقط لأن المستهلك لم يكن أمامه بديل آخر
هذا الواقع خلق نوعًا من الراحة الزائفة لدى الكثير من الصناعيين، فلم تكن هناك حاجة لتطوير المنتج، أو تحسين المواصفات، أو حتى التفكير في التكلفة والجودة، لكن مع الواقع الجديد ورفع الحماية عن الصناعات المحلية وجد بعض الصناعيين السوريين نفسه فجأة أمام عالم جديد تمامًا سوق مفتوح، منافسة شرسة، ومستهلك بات لديه خيارات عديدة وباسعار منافسة .
:الكثير من أصحاب المصانع، خصوصًا المتوسطة والصغيرة، وجدوا أنفسهم أمام أسئلة صعبة لم يعتادوا طرحها من قبل
• هل أستطيع التنافس مع هذة البضائع والمنتجات الجديدة وكيف؟
كيف أُطوّر خط الإنتاج لخفض التكاليف؟
• كيف أتنافس مع منتج مستورد بسعر أقل؟
• كيف أُدخل التكنولوجيا في الإدارة والإنتاج؟
• كيف أصل إلى أسواق جديدة أو أصدّر منتجي؟
المشكلة بجزء كبير منها ليست مرتبطة فقط بتكاليف الإنتاج أو أسعار الطاقة ، بل بعدم معرفة الكثير منهم بكيفية التعامل مع هذا الواقع الجديد .
هي فجوة معرفية وتنظيمية أكثر مما هي أزمة إنتاج أو إرادة.
وهذا ماجعل الكثيرين منهم يطالبون الحكومة بإعادة إغلاق الأسواق أمام منتجات معينة او بإجراءات حمائية لمنتجات اخرى ،ولكن الحل لا يكمن في العودة إلى الحماية والانغلاق، بل يكون في تمكين الصناعيين بالمعرفة والأدوات التي تسمح لهم بالمنافسة.
هنا يظهر دور الحكومة، ليس كحارس للسوق، بل كشريك في التطوير وبناء القدرات.
اعتقد انه على وزارة الاقتصاد بالإضافة لغرف الصناعة وربما بالتعاون مع منظمات دولية، أن تبادر إلى تأسيس هيئة متخصصة لتأهيل الصناعيين ودعمهم في عملية التحول الجديدة، وان تقوم هذه الهيئة بخطوات عملية وواقعية وسريعة للأخذ بيد هؤلاء الصناعيين لتجاوز هذه المرحلة بأقل خسائر ممكنة وتمكينهم من مواجهة هذه التحديات الجديدة من خلال :
1. ورش عمل تطبيقية داخل المصانع
إرسال خبراء إلى خطوط الإنتاج لتقديم حلول مباشرة في مجالات الجودة، التسويق، وخفض التكلفة يمكن أن يحقق نتائج ملموسة خلال فترة قصيرة.
2. برامج تأهيل إداري حديثة
كثير من الصناعيين يمتلكون خبرة فنية كبيرة، لكنهم بحاجة إلى أدوات الإدارة الحديثة.
ورشات مكثفة في الإدارة، التسويق، والتخطيط المالي يمكن أن تغيّر طريقة التفكير وتفتح آفاقًا جديدة.
3. تشبيك الصناعات الصغيرة والمتوسطة
الورش الصغيرة يمكن أن تكون جزءًا من منظومة إنتاج متكاملة مع المصانع المتوسطة.
هذا النوع من التكامل يخلق كفاءة أعلى ويحوّل التنافس إلى تعاون فعّال داخل القطاع الصناعي.
4. تجميع الصناعيين في قطاعات محددة
تنظيم لقاءات وندوات تجمع أصحاب الورش والمصانع في نفس المجال (مثل الصناعات الغذائية أو الكهربائية) وتشجيعهم على تأسيس شركات جماعية أو اتحادات إنتاجية مشتركة لتقوية مواقعهم في السوق.
5. دعم معنوي ورسالة ثقة
الصناعي السوري اليوم بحاجة إلى رسالة واضحة من الدولة تقول: “نحن إلى جانبكم في هذا التحول، ولن تُتركوا وحدكم.”
هذا الدعم المعنوي لا يقل أهمية عن الدعم المالي أو الفني، لأنه يعيد الثقة بالنفس والقدرة على الاستمرار.
سوريا واحدة من دول عديدة واجهت صدمة الانفتاح الاقتصادي بعد سنوات من الحماية، ولكن دول عديدة مثل تركيا ومصر وفييتنام استطاعت أن تحول هذا التحدي إلى فرصة بفضل سياسات واعية وبرامج دعم حقيقية للصناعيين.
في التسعينات مثلاً قامت الحكومة التركية بتأسيس مؤسسات خصصت برامج ضخمة لدعم التطوير الصناعي،ووفّرت تمويلًا وتدريبًا وإشرافًا فنيًا للمصانع الصغيرة والمتوسطة. و تحوّلت المصانع التركية بعد عقد واحد من الإنتاج المحلي البسيط إلى التصدير نحو أوروبا والشرق الأوسط.
وكذلك الأمر في مصر بعد 2005 حيث أدت برامج التدريب الصناعي التي أطلقتها وزارة التجارة والصناعة إلى تأهيل آلاف العاملين في المصانع المتوسطة وتحديث خطوط إنتاجهم، وارتفاع القدرة التنافسية للمنتجات المصرية تدريجيًا.
وفي فيتنام ( أحد أسرع الاقتصادات الصناعية نموًا في آسيا) لم يكن السر فقط في جذب الاستثمارات الأجنبية، بل في تأهيل الصناعيين المحليين على التقنيات الجديدة، وتشجيع التعاون بين الورش الصغيرة والمصانع الكبرى لتكوين شبكات إنتاج متكاملة.
الانفتاح بحد ذاته ليس خطرًا، بل طريقة التعامل معه هي ما تحدد النتيجة.
و الصناعي المحلي لا يحتاج إلى الحماية، بل إلى التمكين.
وحين يحصل على التدريب، والمعلومة، والشراكة الصحيحة، يصبح الانفتاح فرصة للنمو لا تهديدًا.
الخلاصة
إن بقاء الصناعة السورية وتطورها لا يعتمد فقط على حماية السوق، بل على سرعة استيعاب الصناعيين لآليات المنافسة الحديثة.
الخبرة الإنتاجية موجودة، والعزيمة لا شك فيها، وكفاءة العامل السوري مضرب مثل ، لكن المطلوب هو جسر بين الإنتاج والمنافسة.
إن تأسيس مؤسسة وطنية حقيقية تُعنى بتأهيل الصناعيين وتطوير مهاراتهم هو الخطوة الأهم نحو تحويل أزمة الانفتاح الاقتصادي إلى فرصة حقيقية لنهضة صناعية سورية جديدة
|
تعليقات الزوار
|
|















