سوق العمل في سوريا تحت الاختبار.. فرص مؤجلة وجيل ينتظر
الاقتصاد اليوم:
بعد سنوات طويلة من الفساد وسوء الإدارة، تدخل سوق العمل في سوريا مرحلة دقيقة يمكن وصفها بأنها الامتحان الأول بعد التحرير، فبين اقتصاد يحاول لملمة شظاياه، وطاقات بشرية شابة تبحث عن موطئ قدم في مستقبل لا يزال قيد التشكل، تبدو البلاد كأنها تقف على عتبة إعادة تعريف علاقاتها الإنتاجية ومسارات التنمية فيها.
وبينما تتزايد التوقعات بعودة تدريجية للاستثمار وتحريك القطاعات الحيوية، يبقى السؤال الأهم: هل تستطيع سوق العمل السورية تحويل هذا المناخ الجديد إلى فرص حقيقية تعيد الثقة والقيمة للفرد والاقتصاد معاً؟.
بحسب مؤشرات نشرها موقع “الاقتصاد العالمي” استناداً إلى بيانات البنك الدولي، بلغ عدد القوى العاملة في سوريا نحو 6.62 ملايين شخص، فيما وصلت نسبة البطالة إلى نحو 12.96 بالمئة في عام 2024، غير أن هذه الأرقام لا تعكس بدقة عمق الأزمة، إذ بقيت نسبة مشاركة القوى العاملة منخفضة عند 37.86 بالمئة فقط، في حين تجاوزت بطالة الشباب، لا سيما في الفئة العمرية 18-24 عاماً، 30 بالمئة، ما يسلّط الضوء على فجوة حقيقية في قدرة سوق العمل على استيعاب طاقات جيل كامل.
وقدّر وزير الاقتصاد والصناعة نضال الشعار، في تصريح سابق، أن البطالة تتجاوز 60 بالمئة، مضيفاً أن نحو 2.7 مليون شاب في سوريا لا يجيدون القراءة أو الكتابة أو أداء أي عمل، ما يستدعي إطلاق برامج تأهيل شاملة، تشمل إنشاء مصانع ومدارس ومراكز تدريب لدمجهم في سوق العمل.
يرى الباحث الاقتصادي محمد السلوم، أن سوق العمل السورية يعيش لحظة فارقة في العام الأول بعد إسقاط نظام الأسد المخلوع، يمكن وصفها بأنها المسافة بين النجاة والحياة؛ فالدولة تحررت من القبضة الأمنية والمالية، والاستثمارات بدأت تتنفس بعد سنوات الاختناق، غير أن مفاعيل هذا التحول لم تتبلور بعد بشكل كافٍ لخلق موجات توظيف واسعة تمتص طاقات الشباب وتعيد توجيه الخبرات الوطنية نحو الإنتاج.
وأوضح السلوم، أن البلاد حالياً أمام اقتصاد انتقالي لم يدخل بالكامل في دورة اقتصادية مستقرة، لذلك فإن المشهد الآن ليس بداية ولا نهاية، بل طريق مفتوح بانتظار المضي.
وقال السلوم: “العقبة الأبرز أمام تشغيل اليد العاملة في هذه المرحلة لا تتعلق بانعدام الفرص، بل ببطء قدرة الاقتصاد على تحويل الفرص إلى وظائف، فالمستثمر الذي يمد عينيه إلى سوريا الجديدة يرى بلداً واعداً، وسوقاً كبيرة، وموارد طبيعية، وموارد بشرية شابة، وبيئة سياسية أكثر انفتاحاً من أي وقت مضى، لكنه في الوقت ذاته يراقب البنية المؤسسية التي لا تزال قيد الترميم، فالتشريعات تحتاج إلى تحديث، ومنظومة قضائية تحتاج إلى توسعة لحماية رأس المال، ونظام مصرفي لا يزال يستعيد ثقته وتوازنه بعد سنوات العزلة الدولية”.
ويعتقد أن فتح الأبواب لا يكفي إذا لم يكن الطريق المؤدي إليها ممهّداً.
فجوة المهارات
أشار الباحث الاقتصادي إلى معاناة سوق العمل أيضاً من فجوة المهارات، فالأجيال التي بلغت سن العمل خلال سنوات الحرب دخلت المعترك من دون تدريب مهني كافٍ، بينما تتنامى الحاجة إلى مجالات تقنية وصناعية وزراعية حديثة لا يستطيع سوق العمل التقليدي سدّها بسهولة.
وأكد أنه من غير المنطقي توقع انطلاق الصناعة والنفط والطاقة والتكنولوجيا من دون إعادة بناء منظومة التدريب والتأهيل المهني، وإعادة الجامعة والمعهد إلى موقعهما الطبيعي كمصانع للمهارات لا كممر للوقت والشهادات.
وشدد السلوم على أن القطاعات القادرة على استيعاب أكبر قدر من العمالة موجودة بالفعل، لكن طاقتها معطلة جزئياً بسبب ظروف تشغيلية وتمويلية لم تُستكمل بعد.
وأضاف: “الزراعة مثال واضح، فهي القطاع الذي يستطيع تشغيل مئات آلاف السوريين بسرعة إذا توفرت القروض الزراعية، والمكننة، وخدمات التسويق والتصدير.. والصناعات الغذائية والنسيجية كذلك جاهزة للنهوض، لكنها لا تزال تنتظر طاقة كهربائية مستقرة وتمويلاً أولياً لتعيد فتح المعامل التي أغلقتها الحرب”.
وتابع: “أما قطاع الإعمار، وهو عمود المستقبل، فإنه قادر وحده على امتصاص جزء ضخم من البطالة إذا نُظّم بقوانين تمنع الاحتكار، وتضمن أجوراً عادلة، وتشجع الشركات السورية الناشئة على المشاركة لا المشاهدة”.
واعتبر أن رهان المرحلة المقبلة يجب أن يتجه أيضاً نحو المشروعات الصغيرة وحاضنات الأعمال، فهي الأكثر قدرة على خلق وظائف سريعة ومرنة في اقتصاد لا يزال يبحث عن توازنه؛ فمشروع صغير في الصناعات الغذائية، أو مصنع نسيج مصغّر، أو شركة ناشئة في الخدمات الرقمية، كل واحد منها قادر على تشغيل من خمسة إلى عشرات الشباب إذا توفّر التمويل والإشراف والتدريب.
وهنا يمكن لصندوق التنمية، وللبلديات، وللقطاع الخاص أن يلعبوا دوراً أكبر وأكثر تأثيراً مما يعتقده كثيرون.
الثورة
|
تعليقات الزوار
|
|
















