من الفوضى إلى التنظيم.. كيف تعيد سوريا بناء منظومتها الإنتاجية؟
الاقتصاد اليوم:
تُعد سلاسل الإنتاج العمود الفقري لأي اقتصاد منتج، وهي منظومة مترابطة تبدأ من تأمين المواد الأولية، مروراً بالتصنيع والتوزيع، وصولاً إلى التصدير أو البيع المحلي.
كل حلقة في هذه السلسلة تؤثر مباشرة على الأخرى، وتنعكس على الناتج المحلي الإجمالي، الذي يقيس القيمة الإجمالية لما يُنتج داخل البلاد خلال فترة زمنية محددة. كلما كانت هذه السلاسل أكثر كفاءة وتنظيماً، زادت قدرة الاقتصاد على النمو وتحقيق الاكتفاء الذاتي، وكلما تفككت، تراجع الإنتاج وارتفعت التكاليف وفُقدت فرص التنمية.
في سوريا، قبل عام 2011، كانت البلاد تمتلك منظومة إنتاج زراعي وصناعي مترابطة نسبياً، تعتمد على توزيع جغرافي واضح للتخصصات، وتستفيد من بنية تحتية مقبولة ويد عاملة نشطة.
ورغم أن هذه المنظومة لم تكن مثالية، إذ تخللتها مظاهر من الفساد الإداري والترهل المؤسسي، إلا أنها كانت قادرة على تأمين احتياجات السوق المحلي وتوفير فائض للتصدير في قطاعات حيوية كالحبوب والنسيج والصناعات الغذائية، ما أسهم في دعم الناتج المحلي الإجمالي الذي بلغ حينها نحو 60.2 مليار دولار.
لكن مع اندلاع الثورة السورية عام 2011، تعكّر المزاج السياسي العالمي اتجاه النظام المخلوع، وبدأ الاقتصاد السوري يفقد تماسكه. العقوبات العربية والأوروبية والأميركية أدّت إلى انكماش الاقتصاد بنسبة 20 في المئة، وارتفع التضخم إلى 40 في المئة، في حين فقدت الليرة السورية 51 في المئة من قيمتها أمام الدولار. وبحلول عام 2016، كان الناتج المحلي قد تراجع إلى أقل من 40 في المئة من مستواه قبل الثورة، مسجلاً 11.9 مليار دولار فقط، أي ما يعادل فقدان 80 في المئة من القيمة الفعلية للناتج بسعر صرف الدولار.
في قلب هذا الانهيار، تفككت سلاسل الإنتاج، وتغيّرت خارطة التخصص الجغرافي بفعل التهجير والنزوح الناتج عن حرب النظام المخلوع، ما خلق فراغاً ملأه الاقتصاد غير الرسمي، على حساب جودة المنتجات وشفافية العمليات. غياب هذه السلاسل المتماسكة حرم سوريا من الاستفادة من مواردها الزراعية والصناعية، وأضاع فرصاً كبيرة في تحقيق الأمن الغذائي والاكتفاء الذاتي، في وقت كانت فيه البلاد بأمسّ الحاجة إلى استقرار اقتصادي.
ومع نهاية حقبة نظام الأسد وإعلان التحرير، تبرز الحاجة الملحّة لإعادة بناء هذه السلاسل، عبر خطوات تبدأ من إصلاح البنية التحتية، وتوفير التمويل، وتنظيم الأسواق، واستعادة الثقة بين الفلاحين والمصنّعين والموزعين، لضمان عودة الإنتاج المحلي إلى مساره الطبيعي، وتحقيق تنمية اقتصادية مستدامة أكثر شفافية وكفاءة من السابق.. فهل يمكن تحقيق ذلك؟.
الزراعات التعاقدية: مدخل أساسي لاستقرار الإنتاج الزراعي
يرى الخبير الاقتصادي الدكتور فادي عياش، أن هناك نقطتين جوهريتين تشكّلان أساساً ضرورياً لأي نهج تنموي فعّال في سوريا، خاصة في ظل الحاجة إلى إعادة بناء منظومة الإنتاج الزراعي والصناعي بعد سنوات من التراجع والتفكك.
النقطة الأولى تتعلق بـ الزراعات التعاقدية، والتي يعتبرها الدكتور عياش شرطاً لازماً لتحقيق تنمية زراعية مستقرة ومستدامة. فهذه الزراعات تضمن استقرار العملية الإنتاجية، وتخفف من مخاطرها، وتحافظ على استمراريتها، بما يحقق أبعاداً تنموية كلية تشمل الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والجغرافية والديمغرافية، وهي أبعاد معروفة لا حاجة للتفصيل فيها. ويؤكد أن هذا النموذج من الزراعة يوفّر بيئة أكثر تنظيماً بين الفلاحين والمشترين، ويعزز الثقة في السوق الزراعية، ويحدّ من العشوائية التي لطالما أثّرت سلباً على الإنتاج والتسويق.
الصناعات الزراعية التصديرية: رافعة لتكامل القيمة وتعزيز الناتج المحلي
أما النقطة الثانية، فهي الصناعات الزراعية التصديرية، والتي يرى فيها الدكتور عياش مكمّلاً ضرورياً للزراعات التعاقدية، وضماناً لتكامل سلاسل القيمة المضافة وتعظيمها. هذه الصناعات تُعد الأقدر على الاستثمار الأمثل للمزايا النسبية التي تتمتع بها سوريا على مستوى القطاعات الثلاث: الزراعي، الصناعي، والتجارة الخارجية. وهي التي تتيح تحويل المنتجات الزراعية إلى سلع قابلة للتسويق والتصدير، ما يرفع من القيمة الاقتصادية للإنتاج المحلي ويعزز موقع سوريا في الأسواق الإقليمية والدولية.
ويُقسّم الدكتور عياش الصناعات الزراعية إلى شقين رئيسيين:
الشق الأول يتعلق بمدخلات واحتياجات الزراعة، مثل البذار والأسمدة والأدوية والأعلاف والمكننة الزراعية وخطوط الإنتاج الزراعي، وهي عناصر تتطلب دراسات وبحوث تخصصية لضمان فعاليتها وجودتها، وتوفيرها بشكل منتظم للفلاحين.
الشق الثاني يختص بمخرجات الزراعة بشقيها النباتي والحيواني، ويشمل التصنيع الغذائي والنسيجي وصناعة الألبسة والجلديات، بالإضافة إلى خدمات الأرزاق الغضة، مثل الفرز والتوضيب والتدريب والتشميع والتبريد، وهي عمليات ضرورية لرفع القيمة السوقية للمنتجات وتحسين قدرتها التنافسية.
ويضيف الدكتور فادي عياش أنه إذا ما أُضيفت إلى هذه المنظومة الخدمات واللوجستيات العامة ذات الصلة، مثل النقل والتمويل والتأمين والتصدير، فإننا نكون أمام رافعة تنموية حقيقية على مستوى الاقتصاد الكلي، قادرة على تحريك عجلة الإنتاج، وتعزيز الأمن الغذائي، وفتح آفاق جديدة أمام الاستثمار المحلي والخارجي، بما ينعكس إيجاباً على الناتج المحلي الإجمالي ويُسهم في بناء اقتصاد أكثر تماسكاً واستدامة.
"أسوأ إدارة للموارد في التاريخ البشري"
الخبير الزراعي أكرم عفيف أكد أن أحد أبرز أسباب انهيار القطاع الزراعي في سوريا، بشقيه النباتي والحيواني، يعود إلى ما وصفه بـ"أسوأ إدارة للموارد في التاريخ البشري"، حيث أدى انقطاع سلاسل الإنتاج إلى تفكك المنظومة الزراعية وفقدان قدرتها على الاستمرار.
ويشرح عفيف هذا الخلل البنيوي من خلال مثال بسيط: الحليب يُباع بسعر منخفض، في حين العلف مرتفع الثمن. السبب أن العلف مستورد، ولا يوجد منتج محلي. أما غياب المنتج المحلي، فيعود إلى كونه خاسراً وغير ممول. هذه السلسلة، كما يصفها، كانت سيئة للغاية، وتعكس خللاً عميقاً في إدارة العلاقة بين المدخلات والمخرجات الزراعية.
ويضيف أن سلاسل الإنتاج كانت مركزية، ترتبط بقرارات مركزية، وتعتمد على شبكات فساد ممنهجة، حيث كان الدعم الحكومي يتوجه نحو المستوردات بدلاً من المنتجات التصديرية، وهو أمر نادر الحدوث في الاقتصادات الطبيعية، لكنه كان واقعاً في سوريا.
ويصف هذه المعادلة بأنها "فاسدة"، تقوم على تدمير الإنتاج المحلي لصالح المستوردين الفاسدين، عبر مسؤولين فاسدين أيضاً، ما أدى إلى إضعاف قدرة البلاد على تحقيق الاكتفاء الذاتي، رغم امتلاكها لموارد زراعية غنية.
سلاسل إنتاجية مفككة بالكامل
ويؤكد عفيف أنه خلال سنوات الثورة، لم تكن هناك أي نقاط قوة في سلاسل الإنتاج، بل كانت مفككة بالكامل. المنتج المحلي كان خاسراً إلى درجة أن الأراضي الزراعية نفسها لم تعد تُفلح، كما حدث في أراضي الغاب، حيث نمت الأعشاب المعمرة نتيجة لعدم زراعتها لسنوات طويلة.
ورغم هذا التفكك، يشير إلى أن هذه السلاسل كانت، بشكل ما، كافية لتأمين الحد الأدنى من الاكتفاء الذاتي، لأن سوريا بطبيعتها أرض خصبة، والمنتج لا يستطيع أن يتوقف عن الإنتاج كلياً.
لكن المشكلة أن الإنتاج لم يكن بخير، بل كان يعاني من تذبذب حاد في التكاليف وغياب مؤشرات واضحة لتسعير المدخلات والمخرجات.
ويستشهد عفيف بمثال الخضار كأسعار الخيار، الذي يُباع أحياناً بـ7 آلاف ليرة، ثم يرتفع فجأة إلى 11 ألف ليرة، ما يعكس عدم استقرار سلاسل الإنتاج وتقطعها. كما يشير إلى حالة التفاح، إذ يُباع أفضل نوع منه حالياً بـ 8 آلاف ليرة، في حين الفلاح لا يحصل إلا على ألفي ليرة فقط من ثمنه، بسبب هيمنة الحلقات الوسيطة على السوق.
ويضيف أن الحرب التي شنها النظام على شعبه، أثّرت على سلاسل الإنتاج بشكل مباشر وغير مباشر.
بشكل مباشر من خلال غياب الأمان، وبشكل غير مباشر من خلال ما أفرزته الحرب من فساد، مثل الحواجز التي كانت تفرض إتاوات تفوق قيمة البضاعة نفسها، فقط لتصل إلى وجهتها التصديرية.
هذا الواقع أدى إلى خسائر كبيرة للمنتجين، وانعكس على كمية الإنتاج ونوعيته، التي أصبحت غير منافسة. وضرب مثال الليمون الحامض، الذي ارتفع سعره بشكل كبير نتيجة لقلع الأشجار وتحويلها إلى وقود للتدفئة، بعد سنوات من الخسارة المتراكمة، ما أدى إلى فقدان هذا المنتج الحيوي من السوق، وتراجع القدرة على تعويضه في المدى القريب.
تحول المناطق المنتجة إلى مستهلكة
وأضاف عفيف، أن انقطاع سلاسل الإنتاج الزراعي وغياب التوازن الاقتصادي في سوريا أدّى إلى تحوّل العديد من المناطق من منتجة إلى مستهلكة، نتيجة لعوامل متراكمة أبرزها التفاوت السعري، وغلاء تكاليف الإنتاج، وغياب التمويل، وعدم قدرة الفلاحين على تحمّل الأعباء، إلى جانب عدم استقرار الأسعار. ويؤكد أن هذه العوامل مجتمعة دفعت كثيراً من المنتجين إلى الخروج من دائرة الإنتاج، مشيراً إلى أن الإنتاج لا يزال قائماً في بعض المناطق، لكنه لم يعد يشمل محاصيل استراتيجية مثل القطن والشوندر السكري والقمح، وحتى السكر، التي توقفت زراعتها بشكل شبه كامل.
وفي معرض حديثه عن الاقتصاد غير الرسمي، يوضح عفيف أن "كل سوريا أصبحت غير رسمية"، حيث بات هذا الاقتصاد يملأ الفراغ الناتج عن انهيار الاقتصاد الرسمي، الذي وصفه بأنه "خاسر حتى في معامل المياه". ورغم هذا الواقع، يبدي عفيف تفاؤله بالعهد الجديد، معبّراً عن أمله بانطلاق مرحلة جديدة تعتمد على منتج محلي منافس من حيث السعر والجودة، وقادر على استعادة مكانة سوريا في الأسواق.
ويضيف أن الاقتصاد غير الرسمي بات موجوداً بقوة على الساحة الاقتصادية السورية، وسدّ جزءاً كبيراً من الفراغ الإنتاجي. بل إن هذا الاقتصاد، بحسب عفيف، أصبح قادراً على المنافسة عالمياً، إذ يتم تصدير منتجات أسرية مثل المربيات وغيرها إلى الأسواق الخارجية، ما يعكس قدرة المجتمع السوري على التكيّف والإنتاج رغم غياب الدعم الرسمي.
الجودة غابت.. والفساد السبب
أما فيما يتعلق بجودة المنتجات، فيؤكد عفيف أن "الجودة لم تعد موجودة"، مشيراً إلى أن المنتجات الزراعية السورية تأثرت بشكل كبير نتيجة لاستخدام المبيدات الفاسدة، التي كانت تُستورد عبر مستوردين مرتبطين بمسؤولين فاسدين.
كما أن البذار المستوردة لم تعطِ نتائج مرضية، والأسمدة المستخدمة تركت آثاراً سلبية على التربة والمحاصيل، ما انعكس على جودة المنتجات المعدّة للتصدير، والتي أظهرت التحاليل وجود آثار متبقية ضارة، كما حدث مع التفاح السوري. ويحمّل عفيف الفساد في سلاسل الإنتاج مسؤولية هذا التدهور، مؤكداً أن غياب الرقابة والشفافية دمّر الثقة في المنتج المحلي.
غرفة إنعاش اقتصادي تنموي
وفيما يخص الخطوات المطلوبة لإعادة ربط حلقات سلاسل الإنتاج، يرى عفيف أن البداية يجب أن تكون من خلال "إدخال هذه السلاسل إلى غرفة إنعاش اقتصادي تنموي"، عبر تشكيل فريق من الاقتصاديين لدراسة الواقع وطرح مقترحات واقعية وشفافة ومنطقية وسريعة لإعادة إقلاع الإنتاج. ويضرب مثالاً بمنطقة الغاب، التي يمكن أن تُقارن بهولندا من حيث الإمكانات الزراعية، مشيراً إلى أن سوريا كانت تشهد موسماً زراعياً كل عشرة أيام، وهو أمر لم يعد موجوداً بسبب تراجع المناخ الزراعي.
ويؤكد أن الفقر في سوريا، رغم قسوته، يُعد دافعاً كبيراً للتنمية، مشيراً إلى أن الشمس السورية تتيح إنتاج خضار وفواكه مجففة يمكن الاستثمار فيها. ويشدد على ضرورة البدء بإصلاح البنية التحتية، وتحديث التشريعات، ومكافحة الفساد الذي كان مستشرياً في عهد النظام المخلوع، مع الإشارة إلى وجود بنية تحتية جيدة نسبياً في المدينة الصناعية في حسيا، ما يدعو إلى التفاؤل في ظل التصريحات الحكومية الحالية حول تحديث التشريعات وطريقة العمل.
استقرار الإنتاج من استقرار الأسعار
ويختم عفيف بالتأكيد على أن ما يهم اليوم هو أن يكون المنتج رابحاً، وأن يتحقق الاستقرار الاقتصادي، خاصة فيما يتعلق بالتمويل، ودعم المنتج المحلي، وتأمين سوق محلي وخارجي له، وربطه بالعملية الإنتاجية. ويصف النموذج الذي كان متبعاً في عهد النظام السابق بأنه "نموذج فاشل فاشل فاشل وفاسد"، محمّلاً إياه مسؤولية تدمير الاقتصاد. ويطالب بنموذج جديد لسلاسل الإنتاج، يعتمد على أسس مدروسة وشفافية اقتصادية، ويحافظ على المنتجين والمستهلكين في آنٍ معاً، بحيث يحصل المستهلك على السلعة بسعر مستقر، لأن استقرار المنتج يعني استقرار السعر، والعكس صحيح.
في الختام: إن إعادة بناء منظومة الإنتاج الزراعي والصناعي في سوريا لا يمكن أن تتم بمعزل عن إصلاح سلاسل القيمة المضافة، التي تبدأ بالزراعات التعاقدية وتنتهي بالصناعات التصديرية المتكاملة. كما أن هذه السلاسل ليست مجرد أدوات إنتاج، بل هي بنية استراتيجية تضمن استقرار السوق، وتحفّز الاستثمار، وتربط بين المنتجين والمستهلكين ضمن معادلة عادلة وشفافة. وفي ظل التحديات التي واجهها الاقتصاد السوري خلال السنوات الماضية، فإن تبني نموذج إنتاجي جديد قائم على التخطيط العلمي، والتمويل المستدام، والتشريعات المحفّزة، هو السبيل الوحيد نحو استعادة التوازن الاقتصادي وتحقيق تنمية شاملة تعيد لسوريا مكانتها كاقتصاد منتج ومنافس في المنطقة.
وسيم إبراهيم
تلفزيون سوريا
|
تعليقات الزوار
|
|















