الاقتصاد اليوم ـ تغطية شاملة للأخبار الاقتصادية على مدار اليوم

 

أنقاض الحرب في سوريا... كنز مهدور أم فرصة لإعادة الإعمار

الاقتصاد اليوم:

بقلم: م. سامر العاصي

بينما تمضي سوريا في خطواتها الأولى نحو إعادة الإعمار، تقف جبال الأنقاض التي خلّفها أكثر من عقد من الحرب كشاهد صامت على الدمار... وفرصة محتملة للبناء من جديد.

في مدن مثل حلب، حمص، وريف دمشق، لا تزال الأنقاض تغطي مساحات شاسعة، وتعيق عودة الحياة الطبيعية إلى الأحياء السكنية والأسواق والمرافق الخدمية. لكن في المقابل، يرى خبراء البيئة والهندسة أن هذه الكميات الهائلة من مخلفات البناء قد تكون مفتاحاً لإعادة الإعمار بطريقة مستدامة واقتصادية.

تدوير الأنقاض: من عبء إلى مورد

تشير تقديرات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي إلى أن سوريا تواجه أكثر من 50 مليون طن من الركام والأنقاض، تتنوع بين خرسانة مدمّرة، حديد ملتوي، طوب متكسر، وأخشاب محروقة.

بعيداً عن كونها مخلفات مزعجة، فإن هذه الأنقاض – إذا ما أُعيد تدويرها – يمكن أن تتحول إلى مواد بناء جديدة بتكلفة أقل بكثير من استيراد المواد الأولية، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية الخانقة.

    ومن المعروف أن إعادة تدوير الأنقاض ليست فقط حلاً تقنياً، بل استراتيجية وطنية لتوفير التكاليف وتقليل الاعتماد على الموارد الخارجية. ويمكن للخرسانة المكسّرة أن تُعاد معالجتها لتُستخدم في الطرقات، كما يمكن للحديد أن يُستخرج ويُعاد تصنيعه."

واقع غير منظّم وتدخل حكومي غائب

حتى الآن، لا يزال التعامل مع الأنقاض يتم بطرق بدائية: نقلها إلى مكبّات عشوائية أو استخدامها كردميات دون معالجة أو فرز. هذه الممارسات لا تؤدي فقط إلى هدر الموارد، بل تشكّل خطراً بيئياً وصحياً.

بحسب تقرير صادر عن وزارة الإدارة المحلية والبيئة عام 2024، بدأت بعض البلديات التنسيق مع شركات خاصة ومنظمات دولية لإطلاق مشاريع تجريبية لتدوير الأنقاض. ومع ذلك، تبقى الخطوات محدودة ولا ترقى إلى حجم الحاجة.
"نحن بحاجة إلى تشريعات جديدة، دعم مالي، وتوفير المعدات اللازمة. لدينا الكفاءات، لكن نفتقر للمنظومة الكاملة. إذا وُجدت الإرادة السياسية، فالمجال مفتوح لتوفير ملايين الدولارات."

عوائق حقيقية تواجه التدوير

من أبرز التحديات التي تعرقل تحويل الأنقاض إلى مورد فعّال:

ضعف البنية التحتية التقنية لمعالجة الأنقاض.

غياب التشريعات الناظمة لاستخدام المواد المعاد تدويرها.

نقص الخبرات المحلية في مجال إعادة التدوير المتقدم.

تداخل الأنقاض مع مواد خطرة أو غير قابلة لإعادة الاستخدام، كالأسبستوس والدهانات السامة.

غياب التمويل المخصص من الحكومة أو القطاع الخاص.

رغم هذه التحديات، فإن تدوير أنقاض البناء يمكن أن يحقق وفراً اقتصادياً يقدّر بين 30% إلى 60% مقارنة باستخدام مواد جديدة. يشمل ذلك خفض تكاليف النقل والاستخراج والمواد الخام، وخاصة في المناطق المتضررة بشدة.

تجارب دولية ناجحة: دروس مستفادة

خرجت دول عديدة من حروب مدمّرة، لكنها حوّلت الأنقاض إلى حجر أساس للنهوض:

ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية: استخدمت النساء، فيما عُرف بـ"نساء الركام"، أدوات بدائية لفرز الأنقاض، وأُعيد تدوير ملايين الأطنان لبناء طرق ومبانٍ جديدة.

لبنان بعد حرب 2006: أُعيد استخدام جزء كبير من أنقاض الضاحية الجنوبية في مشاريع الطرق.

العراق: اعتمد على التدوير بنسبة وصلت إلى 80% في بعض المناطق.

في كل هذه التجارب، لعبت الحكومة دوراً حاسماً في التنظيم، إلى جانب شراكات دولية قدّمت الدعم التقني والتمويلي.

البُعد الإنساني والبيئي

تدوير الأنقاض ليس ملفاً فنياً فحسب، بل قضية بيئية وإنسانية:

تراكم الركام وسط الأحياء يزيد من خطر الأمراض ويشوّه صورة المدن.

يعيق عودة السكان إلى منازلهم، خاصة في المناطق المتضررة.

بعض الأنقاض تحتوي على مواد خطرة، ما يجعل معالجتها ضرورة صحية عاجلة.

خلاصة القول: من تحت الركام يبدأ البناء

سوريا اليوم بحاجة إلى رؤية وطنية شاملة للتعامل مع أنقاض الحرب، توازن بين الواقع الاقتصادي والضرورات البيئية.

ما المطلوب؟

إرادة سياسية واضحة لدعم مشاريع التدوير.

تشريعات تنظم وتُجيز استخدام المواد المعاد تدويرها.

شراكات مع منظمات دولية لدعم المشاريع تقنياً وتمويلياً.

تحفيز القطاع الخاص للاستثمار في إعادة التدوير.

توعية مجتمعية بأهمية تحويل الأنقاض إلى موارد.

فالبناء لا يبدأ من الصفر دائماً... أحياناً، يبدأ من تحت الركام.

تعليقات الزوار
  1. تعليقك
  2. أخبرنا قليلاً عن نفسك