الاقتصاد اليوم ـ تغطية شاملة للأخبار الاقتصادية على مدار اليوم

 

الأزمة الاقتصاديّة الراهنة في سورية..ثلاث مستويات لمواجهتها

الاقتصاد اليوم ـ خاص:

مركز دمشق للأبحاث والدراسات مِداد

د.مدين علي

لا يمتلك أحد مفاتيح الحلّ السحريّ للمشكلة/الأزمة الاقتصادية السورية الراهنة في سورية، فالأمر ليس يسيراً ولا سهلاً، ومن غيـر الجائز أن نلقي باللائمة ونسأل: أين الحلفاء؟ وإن كان التساؤل مشروعاً، ولا يجب أن ننتظر برامج إنقاذية تأتينا من هذا الطرف أو ذاك، لأن الجميع محكوم بأساسيات مصالحه، وأولويات أمنه الاستراتيجي. والسؤال الأبرز يبقى ماذا نحن فاعلون؟ ما جديد سياساتنا لمواجهة تجليات الحرب الجديدة؟

في ضوء ما تقدم، وفي محاولة متواضعة، سنحاول اجتـراح بعض الأفكار التـي نعتقد أنها يمكن أن تندرج في سياق برنامج عمل سياساتي، يتكون من ثلاث مستويات، يمكن إجمالها وفق الآتي:

المستوى الأول: مستوى استنهاض الدولة واسترداد هيبة المؤسسات والقانون
إنَّ عملية مواجهة الحرب الاقتصادية التـي بدأت بقوة على سورية، تتطلب اتخاذ إجراءات نوعية، رادعة وصادمة، للحيلولة دون الاستمرار في استباحة هيبة الدولة، والإساءة لصورتها في المخيال أو الوعي الضمني/الجمعي، يمكن الإشارة إلى أهمها وفق الآتي:

1.    التعاطي وبحزم وقوة مع المافيا الاقتصادية والمالية، وإلزامها بكل الأدوات والسياسات، للانضواء دون تردد أو خيار تحت سقف الدولة، وتوجهاتها الاقتصادية والتمويلية أياً كانت. وهذا مدخل أساس لا بد منه لإعادة الأمور إلى سياقها الطبيعي، ووضعها في النصاب الصحيح.

2.    الإطاحة بعروش رموز الفساد، ممن تثبت ممارساتهم الفاسدة، واسترداد المال العام الذي استولوا عليه، وتحويله لصالح الخزينة العامة للدولة، مع الأخذ بالحسبان أن تنفيذ ذلك لا يمكن أن يتم بواسطة قرارات تصدر عن بعض الأشخاص، لأنَّ المسألة باتت أكبـر من طاقتهم، مهما كانت سلطتهم، ومهما بلغت مستويات نظافة الكف لديهم، ولا عن طريق بعض التدابير والإجراءات المحدودة، لأن المشكلة باتت بنيوية وكيانية، ما يعنـي أن مواجهتها يجب أن تكون مشروع دولة ومؤسسات، يأتي في مقدمتها مجلس الشّعب.

3.    العمل بقوة لتـرميم صورة المؤسسة الحكومية، وموظف الخدمة العامة (المدير والأستاذ الجامعي وغيـر الجامعي والموظف الشريف) الذي انكسرت هيبته وتصدعت صورته في زمن الحرب، جراء الحاجة والعوز .... وغيـر ذلك، في الوقت الذي ينتصر فيه الفاسدون، وأصبحوا يتصدّرون واجهة المجتمع، وصدارة الأروقة، ويجب أن نعلم بقوة أن هيبة الدولة من هيبة قانونها ومؤسساتها وموظفيها.

4.    محاسبة المتسببين بإنتاج عوامل الأزمة الاقتصادية التـي تهدد الاستقرار والسلم المجتمعي، ومحاكمتهم بوصف مخالفاتهم وارتكاباتهم جرائم واقعة، تلحق الأذى والضرر بأمن الدولة السياسي والاقتصادي، وتساعد في تصدع البنية الاقتصادية والاجتماعية في سوريّة.


5.    القضاء على جميع المظاهر والسلوكيات التـي تلحق الأذى والضرر المادي والمعنوي بصورة الدولة وهيبتها.  

المستوى الثاني: مستوى السياسات العامة وإعادة الهيكلة

يتطلب العمل على مستوى السياسات العامّة للدَّولة وعمليّة إعادة الهيكلة تنفيذ مجموعة من الإجراءات والتدابير العاجلة التـي تندرج في سياق الإجراءات والتدابير قصيرة الأجل، يمكن توضيحها وفق الآتي:   

1.    إعادة النظر في واقع التخطيط الاقتصاديّ ودوره، وإعداد الخطط والبـرامج الاقتصادية الحقيقية، وابتكار السياسات الكفيلة بوضعِ المنظومةِ الاقتصاديّة في المسار الصحيح الذي يساعد في الوصولِ إلى نقطة التوازن الاقتصادي والاجتماعي.

2.    تشكيل خلية لإدارة أزمة اقتصادية تحت إشراف جهة وصائية عليا، تتكون من خبـراء وطنيين لديهم الحس السليم، والعقل البارد، يتمتعون بحالة من التوازن والانسجام النفسيّ والأخلاقيّ والمهنـيّ، مهمتها تقديم المقترحات والأفكار ورصد الواقع، ضمن تقارير يومية تُرفع لصناع القرار.

3.    إعادة هيكلة الكثيـر من الهياكل والبنـى الإدارية والمالية، في ضوء تقييم دورها ودراسة جدواها، إذ إنَّ الكثيـر منها كان قد أُنشئ في ظروف معينة، وفي ضوء متطلبات سياقٍ تاريخيٍّ مختلف، ما يعنـي أنها فقدت معناها في ضوء التحولات والمعطيات المتلاحقة، وأصبحت تشكل عبئاً ثقيلاً على الدولة والمجتمع في سورية.

4.    إعادة النظر في واقع الاتحادات والنقابات والأحزاب ودورها في الحياة العامة، تحديداً لجهة ما يتعلق بإدارة الأملاك، وآليات الصرف والإنفاق، ومصادر مواردها وإيراداته، وكيفية توزيعها والتصرف بها.

5.    شنّ حرب حقيقية على المهربين وعمليات التهريب، واعتماد عقوبات جزائية رادعة بجرم تهديد الأمن الوطني والإضرار بالمصلحة الوطنية العليا.

6.    المراجعة وإعادة النظر بصورة جذرية في سياسات التجارة الخارجية، أي (سياسة الاستيراد والتصدير، وسياسة إدارة القطع الأجنبـي، والتعامل مع السوريين المقيمين في الخارج)، ووضع رؤى متكاملة، تقوم على قواعد وأسس معينة، يمكن تحديدها وفق الآتي:

-    وضع حدّ لسقوف الاستيراد، شريطة ألا تتجاوز الطاقة الاستيرادية للاقتصاد السوريّ التـي يجب أن تتحدد في ضوء معدل النموّ الحقيقيّ للناتج ولحجم الإنتاج وبنيته.

-    تحديد أولويات الاستيراد وتمويل المستوردات، لجهة التركيـز على تأمين حاجات ومتطلبات القطاع الزراعيّ، وبحسب الأهمية النسبية والضرورة الاقتصادية على مستوى القطاع، وكذلك الأمر بالنسبة للقطاع الصناعيّ وبحسب الأهمية النسبية والضرورة أيضاً، بحيث يتم استبعاد تمويل الأنشطة ذات المحتوى الدولاري الكبير التي تستنزف الرصيد المحدود.

-    الإقلاع عن سياسة سعر الصرف الوحيد، وتبنـي نظام سعر الصرف المتعدد (مع العلم بأن ذلك الإجراء لن يلقى الترحيب وسيواجه بقوة، لكنه ضرورة في الوقت الراهن)، بحيث يكون هناك سعر صرف مدعوم أو مُغالى به لليـرة السورية للمتعلق بتمويل المستوردات الأساسية أو الضرورية، والصادرات من المواد الأولية. أما بالنسبة للسلع الصناعية المحلية التـي تتجه نحو التصدير والواردات غير الأساسية (غير الضرورية) فتخضع لسعر صرف منخفض.

-    تحفيـز الأنشطة ذات الترابطات المحورية، وتلك التـي يمكن أن تتسبب بدفع خلفي أو أمامي كبيـر، أو خلفي وأمامي في آن، وتساعد في تعميق قنوات التشابك الاقتصاديّ بين القطاعات والأنشطة والفروع.

7.    العمل بصورة مكثفة وعاجلة لتحسين واقع إيرادات الدَّولة المالية. وهذا يتطلب بدوره وضع برنامج عمل إطاريّ/تنفيذيّ عاجل وسريع، يستهدف ملاحقة المتهربين من الدفع، سواء أكانوا متهربين من دفع الضرائب أم الرسوم، ومعاقبتهم جزائياً، ومكافحة هدر المال العام، ووضع جدول أولويات محدد بدقة بالنسبة للإنفاق العام، ووضع الأطر التنفيذية اللازمة لعمل إدارة جمارك قادرة على حماية الاقتصاد السوريّ.

8.    وضع خطة تمويلية وإقراضية متكاملة تعطي الأولوية المطلقة للقطاع الزراعي وقطاع الصناعات الزراعية، ومستلزمات صناعة وتصنيع الأدوية.

9.    وضع خطة محكمة ومتشددة لإدارة القطع الأجنبـيّ، يعدها مصرف سورية المركزي بالتعاون والتنسيق مع وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية وهيئة التخطيط والتعاون الدولي.

10.    قيام الدولة بتشكيل موازنة مخزونية للكثيـر من السلع القابلة للتخزين؛ ذلك عن طريق قيام الدولة بشراء الفوائض من المعروض، عندما تكون الأسعار منخفضة، وتخزينها لأوقات ينخفض فيها العرض.

11.    بناء هيكلٍ جمركيّ مرن ذي طابع حركيّ، يتمتع بالقسوة والشدة في قمع ما يهدد المنتجات المحمية المندرجة في خطة الإنقاذ الاقتصاديّ، تحديداً لجهة ما يتعلق بحماية المنتجات الزراعية، ومنتجات الصناعات الزراعية والصناعات الدوائية بصورة مؤقتة، مع الأخذ بالحسبان ضرورة ألا تتحول السوق إلى سوق احتكارية في الأجل الطويل.

12.    فرض ضريبة على المصدّرين، يمكن أن تساعد في ترميم العجز في ميـزان القطع الأجنبـي، وهذه الضريبة لا يمكن أن يترتب عليها أي نتائج سلبية، لأن انخفاض سعر صرف الليـرة السورية، يشكل فرصة لتعزيز القدرة التنافسية، وتحقيق ربح إضافي للمصدّرين يعوضهم عن الضريبة المسددة.

13.    تغييـر بعض فئات النقد السوري، بهدف الضغط لإخراج النقد السوري المحتبس، والمغيب لأسباب وغايات مختلفة، خارج دورة النشاط الاقتصادي.

14.    مراجعة بعض القرارات والبلاغات التـي تتعلق بإدارة الأزمة الاقتصادية الراهنة كمدخل لإلغائها، أو تعديلها قبل فوات الفرصة.

المستوى الثالث: مستوى العلاقة مع الحلفاء

لا يمكن البحث عن حلول للأزمة الاقتصادية الراهنة دون التعرض لدور الحلفاء، تحديداً الروسي والإيراني. فمن حق إيران أن تبحث عن مصالحها وعوائد مواقفها واستثماراتها في الحرب والسياسة، إذ إنها دفعت كثيـراً في زمن الغرم، ولذا تسعى لأن تجنـي في زمن الغُنم. لكن المسألة تحتاج بالمقابل إلى مراجعة سياسية، وإعادة تدوير للزوايا الاستراتيجية، وإعادة قراءة المعطيات التاريخية والمستقبلية، بمنظور مختلف، يأخذ بالحسبان ممكنات الحل والتسوية، والتحولات الكبـرى في موازين القوى السياسية والاقتصادية والعسكرية الدولية والإقليمية، بعيداً عن المحمولات الإيديولوجية. أما بخصوص العلاقة مع الجانب الروسيّ. فلا شك في أنَّ لروسيا مصالح استراتيجية كبـرى في المنطقة، وهي ترى في الأزمة السورية مدخلاً تاريخياً، وفرصة ربما لن تتكرر، عليها أن تنتهزها لوضع ترتيبات معيّنة، تضمن مصالحها الاستراتيجية في الإقليم، لكن ذلك يتطلب من الروس العمل بمنظور متوازن ينطلق من تفاهمات كبـرى، لإرساء الأسس المتينة لعلاقة استراتيجية أكثـر توازناً، تأخذ بالحسبان مصالح جميع الأطراف (الحلفاء) وتضحياتهم طوال سنوات الحرب.

تعليقات الزوار
  1. تعليقك
  2. أخبرنا قليلاً عن نفسك