الاقتصاد اليوم ـ تغطية شاملة للأخبار الاقتصادية على مدار اليوم

 

الاقتصاد الرقمي وأدوات الذكاء الاصطناعي… القوة الجيوسياسية الصاعدة في الشرق الأوسط

الاقتصاد اليوم:

بقلم: د. محمّد عمّار دلّول
خلال أكثر من عقدين من العمل في هندسة شبكات الاتصالات، وتطوير الأنظمة الحكومية، والإشراف على مشاريع تحول رقمي في الشرق الأوسط وأوروبا، أصبحتُ أكثر يقينًا بأن المنطقة تعيش اليوم تحوّلًا جذريًا لا تقوده السياسة ولا الاقتصاد التقليدي، بل الاقتصاد الرقمي وأدوات الذكاء الاصطناعي. فهما القوة الهادئة التي تعيد تشكيل النفوذ الإقليمي وتعيد رسم موازين القوى بطريقة غير مسبوقة.

لقد تحوّل الاقتصاد الرقمي خلال السنوات الأخيرة من قطاع مكمل للاقتصاد الوطني إلى أداة سيادية تحدد قدرة الدولة على الاستقرار، والنمو، والمنافسة، والتأثير. فالدول التي استثمرت في البنى الرقمية، وفي مراكز البيانات الضخمة، وفي السحابات الوطنية، وفي بناء منظومات ذكاء اصطناعي قادرة على تحليل الواقع والتنبؤ به، أصبحت تمتلك قدرة استثنائية على إدارة مواردها وتوجيه سياساتها واتخاذ قراراتها بسرعة وذكاء.

إن ما ألمسه من واقع عملي مع مؤسسات حكومية وشركات دولية كبرى هو أن الذكاء الاصطناعي بات يشكّل عقل الدولة الحديثة. فهو يحلل البيانات الهائلة التي تنتجها الحكومات والمجتمعات، ويربط القطاعات ببعضها، ويمنح صانع القرار قدرة لم تكن ممكنة قبل سنوات قليلة: القدرة على رؤية الصورة الكاملة. فالدول التي تمتلك هذا العقل الرقمي تستطيع التنبؤ بالتغيرات الاقتصادية، واحتواء الأزمات، وتوجيه الاستثمار، وتحقيق الاستقرار المالي والاجتماعي.

وفي المقابل، ظهر مفهوم جديد في العلاقات الإقليمية يمكنني القول إنه ينمو بسرعة فائقة: الدبلوماسية الرقمية. فالتعاون بين الدول لم يعد قائمًا فقط على المصالح السياسية أو الاقتصادية، بل أصبح يرتكز على تبادل البيانات، وربط مراكز البيانات والأنظمة الحكومية، وتنسيق الأمن السيبراني، وتطوير منصات ذكاء اصطناعي مشتركة. هذه الروابط الرقمية العميقة أصبحت، في كثير من الحالات، أقوى من التحالفات التقليدية لأنها تمسّ جوهر الدولة وعمقها الرقمي.

ومع تطور الاقتصاد الرقمي، تزايدت أهمية الأمن السيبراني باعتباره خط الدفاع الأول للدول. فالهجمات الإلكترونية لم تعد تهاجم مواقع الإنترنت، بل تستهدف منظومات الطاقة، والمياه، والاتصالات، والمصارف، والمطارات. دولة لا تمتلك منظومة دفاع سيبراني لا تستطيع ادّعاء السيادة الرقمية، ولا القدرة على حماية اقتصادها أو استقرارها الداخلي. لقد رأيت في عملي كيف يمكن لثغرة واحدة أن تشلّ قطاعات كاملة، وكيف يمكن لمنظومة سيبرانية محكمة أن تحمي دولة بأكملها من الانهيار.

ونتيجة لهذه التحولات، أصبح الشرق الأوسط يدخل فعليًا سباق النفوذ الرقمي. دول تستثمر بكثافة في الذكاء الاصطناعي والاقتصاد الرقمي، وأخرى ما تزال تدير مؤسساتها بأساليب تقليدية غير قادرة على مواكبة سرعة العالم. الفرق بين من يتقدم ومن يتأخر لم يعد يُقاس بحجم الجيوش ولا بكمية الموارد الطبيعية، بل بقدرة الدولة على بناء اقتصاد رقمي مرن، متصل، وآمن، يعتمد على الذكاء الاصطناعي كرافعة أساسية لقراراته.

الفارق الجوهري الذي أراه اليوم هو الفارق بين دولة تستهلك التكنولوجيا ودولة تحوّل التكنولوجيا إلى قوة وطنية وإقليمية. الأولى تبقى على هامش التحولات، بينما الثانية تصنع موقعها في المستقبل.

إن الاقتصاد الرقمي، حين يقترن بأدوات الذكاء الاصطناعي، لا يصبح فقط قطاعًا تنمويًا، بل يتحوّل إلى أداة جيوسياسية قادرة على تغيير موازين القوى، وإعادة رسم التحالفات، وتحديد من يقود المنطقة ومن يتبع.

المستقبل لن ينتظر أحدًا، والدول التي تدرك هذا التحوّل وتبني قدرتها الرقمية اليوم، هي التي ستملك الغد وتكتب شكل الشرق الأوسط في العقد القادم.

وأنا على يقين أن بناء مكانة راسخة لأي دولة في هذا العصر يبدأ من فهم هذه الحقيقة:

من يمتلك اقتصاده الرقمي وذكاءه الاصطناعي… يمتلك موقعه الجيوسياسي.

تعليقات الزوار
  1. تعليقك
  2. أخبرنا قليلاً عن نفسك