الاقتصاد اليوم ـ تغطية شاملة للأخبار الاقتصادية على مدار اليوم

 

التشاركية..لكن!

الاقتصاد اليوم ـ صحف:

الشراكة بين القطاعين العام والخاص هي شكل من أشكال التعددية الاقتصادية، ويمكننا أن نعدها ركناً رئيسياً من أركان التنمية في البلدان النامية، وهي مظهر من مظاهر مشاركة الرأسمال الوطني في الخطة الاقتصادية للدولة.

من البديهي أن تضع أية دولة في العالم أوليات لاستثماراتها العامة والخاصة، تنسجم مع المرحلة التي يمر بها اقتصادها، وهذا ما يسمى في عالم الاقتصاد بتوجيه الاستثمارات. في العقد الماضي شجعت الحكومات المستثمرين.. وأصحاب الرساميل العربية والأجنبية، فتوجهت هذه الاستثمارات إلى القطاعات الريعية، وعُرضت المواقع السياحية والمشاريع على المستثمرين لتوظيف أموالهم في تلك المشاريع، وقد أثمرت تلك الجهود عن توقيع العقود مع البعض، كما روجت الحكومة لاقتراحات أمام مجموعات من المستثمرين العرب لجذبهم إلى الاستثمار في مشاريع عقارية من فئات النجوم التي تزيد عن خمسة، لكننا لم نتلمس جهداً موازياً لتطوير الصناعة السورية بقطاعيها العام والخاص، ومساعدتها، خاصة في القطاع العام، لتحديث وسائلها التقنية، وتطوير قدراتها الإنتاجية، ورفدها بالتكنولوجيا الحديثة، بل أكثر من ذلك، إذ فتحت الأبواب للصناعات القادمة من أصقاع الأرض لمنافسة صناعتنا الوطنية في عقر دارها، في وقت كانت الصناعة السورية تحتاج فيه إلى دعم الدولة للوقوف على قدميها، فراوحت مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي بين أعوام 2006 و ،2010 بين 7و 11%، كذلك تواضعت الاستثمارات العامة والخاصة في القطاع الزراعي، فالبعض في الفريق الاقتصادي للحكومات كان يعول على إلغاء شراء المحاصيل الاستراتيجية من المزارعين، والحصول عليها من البورصات والأسواق العالمية بحجة توفير الدعم الحكومي لأسعار هذه المحاصيل! وترافق ذلك مع سوء العوامل المناخية، فانخفضت مساهمة الزراعة في الناتج المحلي الإجمالي من 26 إلى 14 % بين أعوام 2006و ،2010 وهذه السياسات عبرت عن عدم جدية الحكومات في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والاكتفاء بتحقيق النموعبرالقطاعات الريعية، وتوزيع ثماره على الأثرياء والمستثمرين ورجال أعمال (الغفلة) الذين نبتوا فجأة على أرضية فساد متعدد الأشكال.

حينها، طالبنا الحكومات المتعاقبة باجتذاب الرساميل الوطنية المنتجة عبر شراكة حقيقية بين الدولة والقطاع الخاص المنتج، لا الرساميل الريعية، للمساهمة في المشاريع الحكومية المدرجة في خطط الدولة الخمسية، بهدف تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية عن طريق تجديد هياكل البنى الاقتصادية الرئيسية كالزراعة والصناعة، وإنشاء وتأهيل البنية التحتية اللازمة للقطاعات الإنتاجية، وإنشاء وتجديد مستلزمات التنمية الاجتماعية كالمدارس والجامعات ومراكز التأهيل المهني، خاصة في المناطق المظلومة، وذلك وفق صيغة تضمن عائداً مقبولاً للرأسمال الخاص المستثمَر، وتتيح للحكومة تنفيذ خططها التنموية، واستمرار سيادتها كممثل للشعب على القطاع العام والمرافق الحيوية، إلاّ أن مهندسي الاقتصاد السوري آنذاك، اختصروا مبدأ المشاركة بين القطاع العام والخاص وذلك بمنح صناعات أساسية يملكها القطاع العام، وبعض المرافق الاستراتيجية للقطاع الخاص الوطني والأجنبي بهدف استثمارها وفق أسلوب B.O.T، أي البناء والتشغيل لمدة يتفق عليها مع الحكومة، ثم إعادة هذه المرافق بعد (عمر طويل) إلى الدولة.

الأزمة.. والتشاركية

الأزمة عصفت باستقرار بلادنا. أربع سنوات ونيف والدماء سالت في مختلف المناطق، ويستمر التخريب الإرهابي المتعمد لكل ما أنجزته أيدي السوريين في العقود الماضية، وتتساقط منشآتنا الحيوية وقطاعاتنا المنتجة.. وبيوت.. وأملاك المواطنين مهدمة.. أو محروقة.

لقد تسببت الأزمة بأضرار بالغة لقطاعات الإنتاج.. والرساميل.. والمصارف.. والاستثمارات.. والاستهلاك.. والادخار، أي بكلمة واحدة تراجعت جميع المؤشرات الاقتصادية، وخاصة في ظل الحصار الاقتصادي الجائر الذي فرضته الإمبريالية الأمريكية وحلفاؤها على سورية. أما في الشق الاجتماعي، فكان أبرز التداعيات ارتفاع نسب الفقر والبطالة والهجرة الداخلية والخارجية، وما أدت إليه من معاناة شديدة مستمرة، أفقرت المواطنين السوريين.

لذلك نعتقد أن جوهر مبدأ التشاركية في الوقت الراهن عليه أن يتسع لمضامين أوسع، تأخذ بالحسبان لا المشاركة بين الدولة والقطاع الخاص المنتج في هذا المصنع أوذاك..أو تطوير حقل نفطي أوغازي في هذه المحافظة أو تلك، بل يتسع ليشمل شراكة حقيقية من أجل إعادة إنهاض الاقتصاد السوري وقطاعاته المنتجة، وخاصة الصناعة والزراعة وبنيتهما التحتية، وتطوير المرافق العامة، وإعادة إعمار ما خربته تداعيات الأزمة على الصعيد الوطني، أما الشرط الرئيسي لنجاح التشاركية في الظرف الراهن، فهو نجاح المساعي الدولية والداخليةلإنهاء الأزمة السورية عبر الحلول السياسية، فدون ذلك لن يوجد الاستقرار الذي يعد العامل الأساسي لنجاح السياسات الاقتصادية المستقبلية.

لماذا الصناعة والزراعة؟

لأنهما بداية عماد التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والنشاطان الرئيسيان لفئات المجتمع السوري المختلفة، ويستأثران بالنسبة العظمى من اليد العاملة السورية، ويساهمان بالحصة الكبرى من الناتج المحلي الإجمالي، وتعتمد على إنتاجهما قطاعات التصدير السورية وشبكة واسعة من النشاطات الحرفية، كذلك فهما يشكلان السند الرئيسي لإيرادات الخزينة العامة.

لقد أدت تداعيات الأزمة إلى إلحاق أضرار وخسائر كبيرة بالقطاع الصناعي بشقيه الخاص والعام، وتشير آخر الأرقام المعلنة من وزارة الصناعة وغرف الصناعة، أن إجمالي قيمة الأضرار والخسائر التي لحقت بالقطاع الصناعي السوري نتيجة التدمير والتخريب والسرقة بلغت حتى الآن نحو 630مليار ليرة سورية. كما بلغ عدد الشركات الخاصة المتضررة التي حصرت نحو 1379 منشأة، و قيمة الأضرار الإجمالية في القطاع الخاص نحو 300 مليار ليرة سورية. عدد العمال الذين خسروا عملهم إثر توقف معامل القطاع الخاص الصناعي فقط 800 ألف عامل حسب وزارة الصناعة، منهم 200 ألف عامل مسجلين في التأمينات الاجتماعية، وهناك تقديرات أخرى تشير إلى أن هذا العدد قد تجاوز المليونين. أما بالنسبة للقطاع العام الصناعي فقد بلغت خسائره الإجمالية نحو 330 مليار ليرة سورية، منها نحو 127 مليار ليرة سورية أضرار مباشرة. وقد أدّت الأزمة إلى خروج 49 شركة ومعملاً ومحلجاً من الإنتاج.

القطاع الزراعي من أكثر القطاعات تضرراً، لا بسبب تقلص المساحات المزروعة بنسبة تبلغ نحو 35% فقط، بل بسبب هجرة اليد العاملة الزراعية، وصعوبة تأمين مستلزمات الزراعة من بذار وسماد وعلف، إضافة للهم الأكبر وهو تأمين المازوت اللازم لعملية الري بعد زيادة أسعاره، وصعوبة وصول الإمدادات الحكومية إلى المناطق الزراعية في المناطق الشمالية والشرقية من البلاد، وهذا ما تسبب في انخفاض كميات المحاصيل الاستراتيجية وبقية المحاصيل، وزاد في الأمر سوءاً صعوبةُ تسليم هذه المحاصيل إلى المؤسسات الحكومية، بعد سيطرة الإرهابيين على مناطق زراعية واسعة، ومنع المزارعين من التعامل مع الدوائر الزراعية الحكومية، فتراجعت كميات القمح المسلمة إلى الدولة في عام 2014 إلى أقل من نصف مليون طن، في حين تبلغ حاجة البلاد للاستهلاك الداخلي بحدود 3 ملايين طن، أما محصول القطن فشهد وضعاً كارثياً.. ولم تتسلم الدولة إلاّ نحو 35-40 ألف طن، في حين تبلغ احتياجات صناعاتنا المختلفة من مادة القطن بين 300 و 350 ألف طن سنوياً.

لذلك لايمكننا فهم مبدأ التشاركية بين الدولة والقطاع الخاص بعيداً عن متطلبات إنهاض الاقتصاد السوري بعد (سنوات الجمر)، والتي تعني بكل المقاييس التركيز على المشاريع المشتركة مع القطاع الخاص في الصناعة التحويلية والزراعة، ومشاريع البنية التحتية الضرورية لتطوير هذين القطاعين.

فليتوقف التصويب على ملكية الدولة وإدارتها لمرافقها

في العقد الماضي تبين بشكل جليّ أن ملكية الدولة، وإدارتها للقطاع العام الاقتصادي والمرافق الحيوية كالكهرباء والمياه والموانئ والمطارات والطرق كانت محط أنظار بعض مهندسي الاقتصاد السوري الذين يعتقدون أن هذه الملكية، وتلك الإدارة تقف عائقاً أمام سيادة السوق.. وقوانين السوق، وشاركهم في ذلك فئات من المستثمرين المحليين والأجانب الذين رأوا في قطاع الدولة هذا حلماً للوصول إلى الجمهور الأوسع.. والربح الأعلى.. والسيطرة المطلقة.!

لم يقتصر الأمر في التصويب على ملكية الدولة على الجانب المحلي، بل قدمت المؤسسات والهيئات الدولية نصائحها بضرورة تفكيك هذه الملكية، فهاهو ممثل الاتحاد الأوربي في سورية يصرح: (يؤمن الاتحاد الأوربي بأن عملية الإصلاح التي تبنتها سورية مهمة وفي الاتجاه الصحيح، وكفيلة بفتح الأبواب أمام اندماج سورية الكامل في الاقتصاد العالمي. وغني عن القول إن الخصخصة وتفكيك الاحتكارات العامة هما أحد متطلبات هذا الاندماج).

ورغم نمو حجم القطاع الخاص في الحياة الاقتصادية، بقيت العيون موجهة نحو قطاع الدولة المتعدد الجوانب، وبدا أن المطلوب هو التخلص من احتكار ملكية الدولة لهذا القطاع وإدارته. واقتنصوا بعض العقود لتطوير بعض المرافق وإدارتها، كمحطتي الحاويات في مينائي اللاذقية وطرطوس، وكانت النتائج هزيلة.. بل مضرّة.

التشاركية بين الدولة والقطاع الخاص المنتج لتنفيذ خطط الحكومة في إعادة إعمار ما خربته تداعيات الأزمة السورية، وتطوير القطاعات المنتجة، خاصة الصناعة والزراعة، ضرورة تمليها الظروف السورية.. ومبدأ التعددية الاقتصادية. أما التشاركية بهدف الخصخصة.. وابتلاع القطاع العام والمرافق الحكومية كما خطط مدبرو الاقتصاد في العقد الماضي، فنراها انسياقاً وراء المخططات التي رسمت في الماضي، وترسم اليوم لأخذ سورية من الداخل.. من بوابة إثارة غضب جماهير الشعب السوري.

 باحث اقتصادي وعضو جمعية العلوم الاقتصادية

المصدر: صحيفة النور السورية

تعليقات الزوار
  1. تعليقك
  2. أخبرنا قليلاً عن نفسك