الحكومة لا تريد مكافحة الفساد
الاقتصاد اليوم:
يبدو الحديث عن مكافحة الفساد، في زمن الحرب، رفاهية زائدة عن اللزوم، جرعة أمل زائدة عن الحاجة، دغدغة لمشاعر ملايين السوريين المنهوبين، ومحاولة للتهدئة غير المعقولة. وعلى خطا الحكومات المتعاقبة ستحافظ حكومة عماد خميس على هدنة مبطّنة مع كبار الفاسدين، تلتزم جميع الأطراف بالمحافظة عليها، وتكون احتمالات خرقها ضئيلة جداً. إذ أثبتت هذه الهدنة نجاعتها سابقاً، في اتقاء شرور هذه القوى الخطيرة، والتعمية على انغماس مسؤولين كبار في وحل الفساد، وتعطيل النصوص التشريعية التي تقتضي المحاسبة.
لا تريد الحكومة مكافحة الفساد، لأنها لا ترغب في تحريك أعشاش الدبابير. إذ ألمح إلى ذلك رئيس مجلس الوزراء، رغم يقينه أن مكافحة الفساد (تجارة رابحة)، على حد تعبيره، إذ تشير تقديرات أكاديمية قبل الحرب إلى أن حجم الفساد بلغ 300 مليار ليرة.
فهمنا من كلام خميس في اجتماع المجلس المركزي للاتحاد العام لنقابات العمال، أن الحكومة المدركة لأهمية المبالغ التي يمكن أن تُحصّل نتيجة مكافحة الفساد، غير راغبة في هذا التوجه، ولا تملك أدوات كافية تخوّلها مساءلة من جنحوا إلى الفساد، وارتكبوا جرائم بحق الاقتصاد الوطني. فيكفي أن ينزع رئيس الحكومة، إمكانية مكافحة الفساد، ويعفي كبار المسؤولين من هذه المهمة، ويقذف بها إلى ملعب المواطن، للتأكد أن هذا الملف غير مُدرَج على أجندة الحكومة الملحّة، أو أنها ليست بصدده، ولا نيّة لديها للاقتراب من هذا (القطاع) الذي بات يدرّ أرباحاً طائلة على ممارسيه، وتحول إلى قطاع اقتصادي ضخم، يستفيد من مكتسباته القلّة.
ونقلت وسائل الاعلام عن خميس قوله: (أربح تجارة اليوم هي مكافحة الفساد، ولكن السؤال: هل يستطيع 32 وزيراً وألفا مدير عام القيام بذلك؟ هذه مهمة جماعية لكل المواطنين.)! وأضاف: (ليس لدينا سياسة أن نسرّح عاملاً هنا ونعفي مديراً هناك، بل يجب أن نعمل على مكافحة الفساد بشكل متكامل).
هذا الكلام لا يعدّ تراجعاً عن مكافحة الفساد، لأن هذه المكافحة كانت معدومة. وفيما بين السطور تصويب على ما سمّته الحكومات السابقة مكافحة الفساد، التي استهدفت صغار الموظفين، والدوائر التي لا تملك القرار. كما أنه تعويم للمطالبات الداعية إلى فتح ملفات الفساد المرتكب أثناء الحرب.
نعم، يمكن لهؤلاء مكافحة الفساد، وبأيديهم الخيوط كلها، ويعرفون تماماً كل المنافذ والأبواب والطرق المتبعة في (عِلم الفساد السوري)، ومخططات الاحتيال على القوانين والأنظمة. كما أن عدداً من هؤلاء شركاء في الفساد حتماً.
وإذا لم يكُ كبار المسؤولين يتصدَّون للفاسدين، فلن يتصدى لهم أحد. مكافحة الفساد ليست اكتشاف ناهبي الأموال، والغش بالمواد والتواطؤ في المناقصات والعقود، لأن الفاسدين تجاوزوها، وتخطَّوا المفهوم التقليدي للفساد، والأساليب الاعتيادية في المكافحة. نحن نتحدث عن مئات مليارات الليرات، وليس ما فعله صغار الموظفين. ألا يقرّ معظمنا، والحكومة ضمناً، بوجود إساءة في استخدام الأموال العامة من قبل عدد من كبار المسؤولين، بما يخدم مصالهم الشخصية؟! ها هو ذا الفساد الخطير، الذي جعل سورية من ضمن قائمة الدول العشر الأوائل عالمياً في ممارسة الفساد.
إن المواطن ليس شريكاً في الفساد، فقد أُرغم على اتباع طرق غير مشروعة، من أجل تسريع معاملة هنا، أو الحصول على استثناء هناك، لكن المسؤولية ههنا تقع على عاتق أصحاب الأقلام الخضراء. نريد من المواطن أن يكون شريكاً في مكافحة الفساد، هذا يعني أننا لا نريد الاقتراب من الملفات الكبيرة، أو الوصول إلى منابعه. مشكلتنا أننا نبحث عن المتهم البريء في ارتكاب الجريمة، ونترك المجرم طليقاً. الفساد جريمة، لا يرتكبها الحمقى، أو المصابون بمرض نفسي. وأموال الفساد تشفع لنا أن نطلب الغوص في عمل أهمّ المؤسسات التي يمكن أن يحصل فيها الفساد.
أُفشلت محاولات سابقة، عمرها يتجاوز عشر سنوات، لتأسيس جمعية أهلية لمكافحة الفساد. كان ذلك رداً غير مباشر على علوّ صوت القوى الراغبة في البدء بمكافحة الفساد، وإطلاق العنان للمحاسبة، واسترجاع المال المنهوب. إلا أن حرف مسار مكافحة الفساد، وتعطيل الجهود المرغوبة في هذا الاتجاه، لم يك مستغرباً، لاسيما أن البيئة القانونية والتشريعية، لا تحفز على مكافحة الفساد، ولا تفسح المجال لانطلاق هذه الجهود. كما أن الجهات الرقابية التي تتحمل مسؤولية محاسبة الفاسدين، تبدو مكبلة اليدين، ممنوعة من العمل، صامتة أمام هذا النهب العلني للمال العام، ولا تملك صلاحيات فعلية لفتح ملفات ضخمة.
ثمة حالة عطش شديد لدى الشارع السوري، لرؤية كبار الفاسدين وقد حاسبتهم الحكومة. وكل الظروف تحتم إطلاق يد الجهات الرقابية في هذا المجال. إلا أن تعطيل جهود مكافحة الفساد، والتخلي عن التجارة الرابحة، يعني وجود شراكة بين الفاسدين وبعض الجهات التي يُفترض أن تتصدى له، وإلا فإن الفرصة مازالت متاحة، قبل أن يفسد الملح.
ثامر قرقوط-صحيفة النور
تعليقات الزوار
|
|