الاقتصاد اليوم ـ تغطية شاملة للأخبار الاقتصادية على مدار اليوم

 

تحقيق استقصائي.. الإصابة بالإنتانات في المستشفيات العامة: اعترافات صادمة

الاقتصاد اليوم:

تحقيق استقصائي لموقع أثر برس

نيرمين العباس|| إشراف: زياد غصن

“لقط جرثومة في المشفى”.. عبارة باتت أكثر من شائعة عند سؤال بعض الأهالي عن أسباب وفاة أقرباء لهم، وهذا واقع لم يعد سراً يجب حجبه كما كانت تفعل بعض المستشفيات سابقاً حرصاً على سمعتها أو خوفاً من المساءلة الحكومية، إذ وفقاً لتقرير أممي صادر في العام 2019، فإن عدد الوفيات السورية الناتجة مباشرة عن الإصابة بإنتان، أو ما يسمى علمياً بـ “مقاومة المضادات الحيوية” بلغ حوالي 1700 وفاة، في حين أن عدد الوفيات الناجمة بشكل غير مباشر عن تلك الإصابة وصل إلى حوالي 6400 وفاة.

وبالاطلاع على جداول شعبة الإحصاء في مستشفى المواساة، تبين لمعدّة التحقيق أن عدد الوفيات المسجلة في الشهر الأول من العام 2024 بلغ حوالي 197 وفاة، منها حوالي 47 وفاة سببها حدوث صدمة إنتانية وفقاً لبيانات مكتب القبول، أي أن نسبة وفيات الصدمة الإنتانية شكلت ما نسبته حوالي 23.8% من إجمالي عدد الوفيات المسجلة في المستشفى في الشهر الأول.

وهناك دراسة أجريت لمدة عام كامل على الأطفال الذين طوروا إنتاناً مكتسباً في وحدة العناية المشددة بالوليد والخديج في مستشفى الأطفال عام 2009، وانتهت تلك الدراسة إلى حدوث 96 وفاة من إجمالي عينة الدراسة البالغة 217 حالة، أي ما نسبته 44%، كما توصل معد الدراسة محمد خالد العيسو إلى أن جرثومة (الأسينتوباكتر) الجرثومة الأكثر تسبباً للوفاة بين مجموعة الجراثيم المعزولة.

التقرير الصادر عن منظمة الصحة العالمية أقر بوقوع ما يقارب من 13.66 مليون وفاة حول العالم جراء تداعيات الإصابة الإنتان بشكل مباشر أو غير مباشر، والإنتان الذي يشكل أحد أهم الأسباب المؤدية للوفاة ينجم عادةً عن عدوى بكتيرية يمكن أن تصيب أي عضو من جسم الإنسان، وبحسب منظمة الصحة العالمية فإن حدوث العدوى المرتبطة بالرعاية الصحية يعتبر أحد أكثر أنواع الأحداث الضارة تواتراً اثناء تقديم الرعاية الصحية، حيث عادةً ما تتواجد أخطر أنواع الجراثيم المسببة للإنتان في المستشفيات

عدوى المستشفيات:

يطلق مصطلح “عدوى المستشفيات” على الحالات التي يصاب فيها المريض بإنتان بعد دخوله إلى أحد المستشفيات، وعادة لا تظهر تلك الإصابة إلا بعد مرور 48 ساعة أو أكثر، تتميز مسببات العدوى في المستشفيات بشراستها نتيجة سببين: الأول مقاومة الجراثيم الشديدة والمتطورة للعديد من المضادات الحيوية، والسبب الآخر مرتبط بنوعية ومستوى الرعاية الصحية المقدمة في المستشفيات، حيث تزداد فرص انتشار الجراثيم وتالياً انتقال العدوى بين المرضى مع تراجع جودة عمليات التعقيم ومستوى النظافة، إضافة إلى ما قد يحمله المريض من أمراض قبل دخوله إلى المستشفى، وبحسب ما يشير رئيس الشعبة الإنتانية والمسؤول عن لجنة ضبط العدوى في مشفى الأطفال الجامعي الدكتور عصام انجق فإن “الإنتانات في المستشفيات عادة ما تكون عبارة عن جراثيم مقاومة لمعظم المضادات، وهذا ما نلاحظه بشكل كبير في معظم الشعب الطبية، وسابقاً كانت العصيات الزرقاء تشكل مشكلة بالنسبة لنا، أما اليوم ظهرت مجموعة جديدة من الجراثيم منها: (الأيكولاي) و( الأسينيتوباكتر ) و(الأنتيروباكتر) وخطورتها مساوية لخطورة العصيات الزرق، وبالتالي يمكن أن تؤدي إلى الوفاة”.

وهذا ما يذهب إليه المشرف البديل على الشعبة الإنتانية في مشفى المواساة الجامعي الدكتور نزار الضاهر الذي يؤكد أن “هذه الجراثيم أحياناً ما تكون مقاومة لمعظم المضادات الحيوية مثل جراثيم ( الأسينيتوباكتر) و (والكليبسيلا) و( الأيكولاي)، كما أن سرعة تصنيع المضادات عالمياً هي أقل من سرعة تطور مقاومة الجراثيم، وبالتالي تصبح محاربتها أصعب”‘ ويضيف أن “الجراثيم سلبية الغرام، وهي الجراثيم التي لديها قدرة داخلية على إيجاد طرق مضيفاً جديدة لمقاومة العلاج، من غير المقبول أن تكون مستوطنة في المشافي، ويجب اتخاذ الإجراءات المناسبة في حال وجودها”.

ولا يخرج حديث أخصائية الأمراض الإنتانية في مشفى المواساة الجامعي الدكتورة بنان الخراط عن حديث زميليها، إذ إن “أكثر الجراثيم انتشاراً في مشفى المواساة هي سلبيات الغرام المقاومة: الايكولاي، الكليبسيلا، الانتيروباكتر، الأسينيتوباكتر”.

لكن ما أكثر الأماكن أو الأقسام في المستشفيات التي تتواجد فيها مثل هذه الجراثيم؟

عملياً تشكل غرف العمليات والعناية المشددة القاسم المشترك بين جميع المستشفيات العامة والخاصة من حيث إمكانية تواجد الجراثيم المقاومة للمضادات الحيوية، فضلاً عن بعض الأقسام الأخرى المرتبطة بخصوصية الخدمات التي يقدمها المستشفى كأقسام معالجة الحروق مثلاً أو الحواضن وما إلى ذلك، فمثلاً وفق للمقابلات التي تم إجراؤها فإن ما يجمع مستشفى المواساة مع مستشفى الأطفال الجامعيين هو التشابه في الأماكن الأكثر جرثمة، حيث يشير رئيس شعبة حديثي الولادة (الحواضن) ورئيس لجنة الإشراف على التعقيم في مشفى الأطفال الدكتور نادر عيد إلى أن “أكثر الأماكن التي تنتشر فيها الجراثيم المقاومة هي العناية المشددة والعمليات والحواضن”، إضافة إلى “أقسام العناية المشددة والحروق” في مستشفى المواساة بحسب الدكتورة بنان الخراط.

إغلاق أو وباء!

في بعض الحالات لا تجد إدارات المستشفيات بديلاً عن إغلاق بعض الأقسام عند ظهور أي نوع من أنواع الجراثيم، ومن ثم البدء بتنفيذ برتوكول تعقيم دقيق يجري بإشراف خاص، وإلا فإن جميع الأقسام ستكون معرضة لانتشار تلك الجراثيم وإصابة المرضى المتواجدين فيها، وهذا ما خلصت إليه دراسة جرت في مستشفى المواساة في العام 2017، حيث أكد معد الدراسة محمد إسحق فاعوري أنه “في حال ظهور هجمات بالعضويات المقاومة يجب إغلاق الوحدة، ورفض أي قبول جديد حتى تتم السيطرة على الهجمة”، وفي هذا السياق يكشف المدير الطبي في مشفى المواساة الجامعي الدكتور حسام البردان أنه “خلال الأسابيع الماضية تم إغلاق قسم عناية الحروق بسبب مسحة كانت إيجابية وتبلغنا عن حالة موبوءة ضمن غرفة الإسعاف في الطابق الخامس، حيث استدعينا على الفور أطباء الجلدية، وتواصلنا مع مركز مكافحة العدوى والأمراض السارية والمعدية في وزارة الصحة، كما تم إخلاء المرضى في القسم المذكور لنتمكن من ضبط العدوى، وهذا ما حدث بالفعل”.

وهناك حالة أخرى مشابهة وقعت في قسم العناية المشددة في مستشفى الأطفال الجامعي بدمشق خلال العام الماضي، وتمثلت وفقاً لما أوضحه الدكتور عصام انجق بـ “انتشار إنتان بجراثيم مقاومة وإصابة عدد من الأطفال بجرثومة (الاسينتوباكتر)، وقد تم إغلاق القسم وإعادة تعقيمه”.

يزداد احتمال انتشار الجراثيم المشار إليها سابقاً، وبالتالي خطورتها على حياة المرضى والخدمات العلاجية المجانية التي تقدمها المستشفيات العامة في هذه المرحلة جراء النقص الذي تعانيه هذه المستشفيات في المستلزمات الأساسية، سواء نتيجة محدودية الموارد المالية في وقت ازداد فيه ضغط المراجعين والمرضى بعد خروج مستشفيات أخرى خارج العاصمة عن الخدمة بسبب الحرب، أو نتيجة إجراءات تأمين احتياجات جميع المستشفيات العامة في السنوات الأخيرة بشكل مركزي عبر مناقصات وزارة الصحة، أو نتيجة للعقوبات الغربية التي زادت من تكاليف استيراد بعض المستلزمات وتأخر وصولها، الأمر الذي أكدته مصادر طبية داخل مستشفى الأطفال ومستشفى المواساة الجامعيين، والتي كشفت عن وجود نقص كبير في المستلزمات الطبية وبعض الزمر الدوائية بالإضافة إلى التحاليل المخبرية، وهذا أيضاً ما نبهت إليه معاون وزير التعليم للشؤون الطبية فادية ديب في تصريحات لوسائل إعلام المحلية، وبذلك تكون النتيجة تراجع جودة التعقيم، وتزايد فرصة انتقال العدوى بين المرضى.

يوضح الكادر الطبي العامل في المستشفيات التي تم إسقاط هذا التحقيق عليها حجم معاناتهم في هذا الملف، فالدكتور حسام البردان يؤكد أن “سبب نقص مستلزمات التعقيم في مستشفى المواساة يرجع إلى عدم توافر بعض المواد في السوق المحلية أو ضمن المدينة، والمستشفى يحاول دوماً تجاوز الصعوبات إما من خلال شراء بعض المواد المتاح شراؤها خارج عملية الاستجرار المركزي، أو من خلال التعاون مع بعض الجمعيات الخيرية التي تقدم بعض المساعدة لنا، أو من خلال التواصل مع مستشفيات أخرى، فمثلاً في حالة عدم توفر الكحول نقوم بمراسلة المستشفيات الأخرى كمستشفى الأطفال القريب للحصول على بعض الكميات إن كانت متوفرة لديه”.

من جهته يكشف مشرف العناية المشددة في مشفى الأطفال الجامعي الدكتور أيمن البلخي أن “وزارة الصحة لا تتأخر فقط بتأمين المواد، لكنها لا تؤمنها، وأحياناً لا تؤمن سوى ما نسبته 10 % فقط من الاحتياج، لذلك فإن معاناتنا في مستشفى الأطفال تبدو كبيرة بسبب حصر عملية استجرار مستلزمات العمل بوزارة الصحة، ففي العام الماضي مثلاً حتى الكحول لم يعد متوفراً بالكميات المطلوبة”، مبيناً أن المستشفى كان قبل ذلك الإجراء “يؤمن ما يحتاجه من مواد بوقت مناسب ووفقاً للموازنة المحددة، أما اليوم ومع تأخر وزارة الصحة في تأمين تلك المواد، فإن المريض يضطر لشراء تلك المواد على حسابه الخاص، ما أدى إلى نشوء تجارة للمواد الطبية خارج المشفى”.

أما الدكتور عصام انجق، وإضافة إلى حديثه عن خطورة “نقص المواد التعقيمية مثل القفازات والكحول”، فإنه يشير إلى نقطة أخرى على غاية من الأهمية وتتعلق بمسؤولية شركات التنظيف عن النقص الحاصل في مواد التنظيف وجودتها وكمياتها المستخدمة.

وإذا عدنا إلى أرشيف الدراسات والبحوث العلمية التي جرت خلال السنوات الأخيرة، والتي لم يكن أمر العثور عليها سهلاً، فإننا سنجد أن هناك دراسة جرت في العام 2017 لغرفة العناية الإسعافية في مستشفى المواساة، ثبت خلالها أن “الملوثات استمرت بالظهور بنسبة عالية 17.7% من المسحات حتى بعد إجراءات التعقيم والتطهير الروتينية”.

وحددت الدراسة التي أجرتها الدكتورة رشا الصيداوي بعض الأمثلة، فمثلاً المسحات الملوثة في منطقة الرعاية الصحية شكلت ما نسبته 58.4% من مجمل المسحات في تلك المنطقة، كما أن أكثر الجراثيم شيوعاً هي العنقوديات سلبية المخثراز ونسبتها شكلت حوالي 59 % خصوصاً على الأيدي وأردية الأطباء والتمريض وأجهزة الخليوي بفعل عدم الالتزام بالإجراءات التعقيمية وتطهير الأيدي، وهذا سبب آخر لانتشار الجراثيم، إذ إن الأمر لا يتعلق فقط بالموارد والإمكانيات والعقوبات، وإنما بإدارة عمليات التعقيم والتزام الكادر بالإجراءات المطلوبة.

عوامل عدة:

نقص الإمكانيات المادية، وتعقيد إجراءات تأمين المواد والمستلزمات الطبية، وتأثيرات العقوبات لا يغطي على أسباب أخرى يتعلق بعضها بالكادر الطبي من حيث عدده ومسؤولياته ومدى التزامه بإجراءات التعقيم، والبعض الآخر يتعلق بعمل شركات التنظيف والتعقيم.

في الشق الأول يُرجِع الدكتور نادر عيد سبب ارتفاع المقاومة الجرثومية وانتشارها إلى مشكلة العجز أحياناً عن ضبط العدوى، والسبب الأساس من وجهة نظره يكمن في النقص الحاصل في عدد الممرضين” فأحياناً تكون الممرضة مسؤولة عن 30 طفلاً، أو أن تكون الممرضة الواحدة معنية بالإشراف والمتابعة واتخاذ إجراءات التعقيم لحوالي 15 حاضنة، لكن لضيق الوقت وضغط العمل قد لا تستطيع إنجاز كل ذلك بالمستوى المطلوب”.

والمعاناة نفسها يسردها الدكتور أيمن البلخي الذي يبين أن “هناك ممرضتين فقط لكامل العناية المشددة التي يتواجد فيها 14 طفل، نعم للأسف نعاني من نقص حاد في عدد الممرضين، وأنا لدي كتب بهذا الخصوص يعود تاريخها للعام 2000، كما أنني في كل عام أطالب بزيادة عدد الممرضات، لأن مشكلة التعقيم مرتبطة بنقص عدد الممرضين”.

في الشق الثاني تبرز أمامنا مشكلة أخرى وهي على درجة عالية من الأهمية، وتتعلق بأداء شركات التعقيم والتنظيف التي يجري التعاقد معها سنوياً، وخلال إجراء هذا التحقيق تبين للمعدة أن بعض شركات التنظيف تقوم بتشغيل مراهقين، فمثلاً إحدى الطبيبات في مشفى الأطفال تفاجأت عندما طلب منها مراهق يعمل مع شركة التنظيف تعقيم مكان إبرة ملوثة بالدم كانت مرمية في سلة النفايات، علماً أن أحد التقارير الصادرة عن منظمة الصحة العالمية في العام 2018 أشار بوضوح إلى أن مخلفات الرعاية الصحية، ومنها المخلفات الملوثة بالدم، يمكنها نقل العدوى بين المرضى في المستشفيات والعاملين الصحيين وعامة الناس، ومسألة “توظيف قاصرين هو أمر مخالف للقوانين والأنظمة، ومع ذلك فإن الكثير من موظفي شركة التنظيف في مستشفى الأطفال هم من المراهقين غير الخاضعين لدورات تدريبية” يقول الدكتور أيمن البلخي.

وبحسب رأي رئيس قسم التمريض العام والمسؤولة في مكتب ضبط العدوى في مشفى المواساة الجامعي لينا محمود (أُعفيتْ لاحقاً وأصبحت نائب رئيس التمريض العام) فإن “بعض شركات التنظيف والتعقيم تلجأ إلى توظيف هؤلاء العمال بحجة أنه لا يوجد عمالة في السوق، وفي بعض الأحيان ترد شكاوى على هؤلاء العمال إما بسبب عدم تقيدهم بمبادئ ضبط العدوى أو خرق تعليمات التعقيم أو عدم الالتزام ببعض الشروط مثل أن يكون العامل معه شهادة علمية ولائق صحياً وبدنياً، لكن في حال تقصير شركة التعقيم والتنظيف يتم اتخاذ إجراء بحقها، واذا تكررت مخالفتها ننهي العقد معها”.

لكن الدكتور عصام انجق كان أكثر صراحة في تعقيبه على موضوع تشغيل شركات التنظيف للأطفال والمراهقين فهي تفعل ذلك من منطلق “الاستغلال لهؤلاء، حيث تدفع لهم رواتب أقل” فيما لو قامت بتوظيف عمال آخرين يحققون الشروط الصحية والعلمية.

المراقبة والتقييم:

في كل مستشفى ثمة لجنة متخصصة ومكلفة بضبط العدوى عبر اتخاذها مجموعة من الإجراءات يشرحها الدكتور انجق مسؤول لجنة ضبط العدوى في مشفى الأطفال الجامعي، وهي إجراءات تتمثل بإجراء اجتماعات دورية لمناقشة الواقع ومراقبة انتشار الجراثيم ضمن أقسام المستشفى، حيث يتم التنسيق مع أخصائي مخبري مسؤول عن زرع الجراثيم، بالإضافة إلى اتخاذ إجراءات التعقيم وصرف المضادات الحيوية.. وغير ذلك، ويضيف على ذلك رئيس لجنة الإشراف على التعقيم في مشفى الأطفال الجامعي الدكتور عيد بالإشارة إلى أنه “يتم دراسة مواد التعقيم بشكل دائم، وكل فترة يتم التركيز على نوع مضادات حيوية وإخفاء مضادات ثانية، محاولين بذلك وقدر الإمكان ضبط العدوى”، والإجراءات تبدو نفسها في مستشفى المواساة الجامعي ضد مشكلة ارتفاع المقاومة الجرثومية، وكما تذكر لينا محمود فإن هناك “لجنة ضبط عدوى تدخل على أي قسم من أقسام المشفى، وتأخذ مسحات جرثومية من الطبيب قبل غسل الأيدي، كما نشرف على التعقيم والأدوات واللباس وحركة الكادر الطبي”، ويركز الدكتور البردان حديثه هنا على آلية تعاملهم مع المضادات الثقيلة في مشفى المواساة الجامعي، حيث أكّد أن هذه المضادات لا تصرف بشكل روتيني بل باستشارة، فالمضادات غالية الثمن وهي لها أهمية حيوية، إذ لا يستطيع أي طبيب بالمشفى صرفها حتى لو كان طبيباً أخصائياً إلا بإجراء استشارة مع طبيب متخصص بأمراض إنتانية”.

استهلاك مفرط وعشوائي:

تناول المضادات الحيوية بشكل عشوائي يسهم هو الآخر إلى جانب تدني جودة التعقيم في ازدياد صعوبة مواجهة ظاهرة انتشار الجراثيم والإصابة بالإنتان، وهذا ما يجعل الدكتورة بنان الخراط تحذر من “أننا سنواجه كوارث إذا لم يحدث ضبط لملف المضادات، ويوجد خطر كبير من ظهور سلالات من الجراثيم المقاومة لمعظم المضادات الحيوية، والسبب يعود إلى عدم وجود هيئة تحد صرف المضادات الحيوية أو سياسة واضحة، وخاصة مع وجود أدوية حديثة في الأسواق الأوروبية والأمريكية والآسيوية”.

والمخاوف الطبية حيال مسألة التناول العشوائي والمفرط للمضادات الحيوية تتأتى من نسبها العالية، إذ وفقاً لدراسة مقطعية قام بها الدكتور أنس البهنسي عام 2014 ونُشِرت في مجلة جامعة طيبة للعلوم الطبية في السعودية، فإنه يمكن شراء المضادات الحيوية بسهولة ومن دون وصفة طبية، ففي العاصمة دمشق وحدها هناك أكثر من 85 % بالمئة من الصيادلة يبيعون المضادات الحيوية دون وصفة طبية، علماً أن عينة هذه الدراسة شملت حوالي 350 صيدلية في ثلاث مدن هي: دمشق واللاذقية وطرطوس. دراسة أخرى أجريت سابقاً في دمشق خلصت أيضاً إلى أن 89.3% من المضادات الحيوية تباع دون وصفة طبية.

وتعقيباً على ذلك يذكر نقيب صيادلة دمشق الدكتور حسن ديروان أن “نسبة صرف المضادات الحيوية يشكل رقم عال بالنسبة لعدد السكان، وهو بالتأكيد يستنزف المال الحكومي ومال المواطن، إضافة الى أن ارتفاع أسعار الأدوية، وخاصة المضادات، يمكن أن يقلل من استخدامها، وهذا لاحظناه من خلال حجم البيع بالمستودعات والصيدليات”، ويتابع قائلاً إن بعض المرضى يتناولون “دواء قد لا يتجاوز ثمنه 15 ألف ليرة، لكن عندما تزيد المقاومة الجرثومية فإن كلفة علاجه تصبح عالية، وقد تصل إلى ملايين الليرات وتحتاج إلى دخول مستشفيات وإجراء صور وتحاليل.. الخ”.

وتثير مسألة صرف الدواء من قبل الصيدليات جدلاً واتهامات متبادلة بين الصيادلة من جهة وبين الأطباء من جهة ثانيةـ ففي حين يأخذ الأطباء على الصيادلة قيامهم بصرف أدوية من دون وصفات طبيب، فالصيدلي يتصرف كما يقول الدكتور نادر عيد “كطبيب، فهو يقوم بعمليات فحص ويصف ويصرف أدوية بشكل عشوائي، والمريض بسبب الوضع الاقتصادي والمعيشي الصعب يلجأ إلى الصيدلي لتوفير تعرفة المعاينة عند الطبيب”، فإن الصيادلة يأخذون على الأطباء وصفهم أدوية لا تتناسب والفئة العمرية للمرضى كما يقول رئيس فرع دمشق لنقابة الصيادلة الدكتور حسن ديروان الذي يوضح أن “صرف الدواء محصور دائماً بين الأطباء والصيادلة، لكن حتى الطبيب يصف أحياناً مضادات حيوية من الأجيال المتقدمة لحالات ليست بحاجتها، مبيناً أن الناحية الطبية تستوجب ألا يُعطى المريض مضاد حيوي إلا بعد تحليل دم أو بول، فالمسؤولية لا تقع على الصيادلة فقط، إذ حتى الأطباء يصفون أحياناً بشكل عشوائي.

وفقاً للأنظمة والتشريعات الصادرة في البلاد، فإن هناك قائمة من الأصناف الدوائية التي يتوجب على الصيدلة عدم بيعها للمواطنين من دون وصفة طبية من بينها المضادات الحيوية، ومن بين تلك التشريعات قانون صادر في العام 1988 وآخر في العام 1992 يمنع صراحة الصيادلة من إعادة بيع المضاد الحيوي الموصوف للشخص نفسه دون إذن الطبيب، وقانون ثالث صادر في العام 1994 يمنع الأطباء من وصف مضاد حيوي أكثر من مرتين لعلاج العدوى نفسها لدى الفرد نفسه، لكنها حتى اللحظة تبقى هذه القوانين غير ملزمة ولا يتم تطبيقها، واليوم هناك ثلاث هيئات مع مقاومة المضادات الحيوية، اللجنة المركزية للوقاية من العدوى ومكافحتها، ومديرية شؤون الدواء، وإدارة مكافحة العدوى في مديريات المستشفيات.

وبالعودة إلى الدراسة المقطعية المشار إليها سابقاً، فإن معد الدراسة الدكتور البهنسي يؤكد أن “النتائج مثيرة للقلق للغاية، حيث أظهرت دراستنا أن هذه الممارسة ستستمر على الأرجح في الوجود، وقد تشكل القوانين الأكثر صرامة بالإضافة إلى التثقيف العام أهم العناصر للحد من انتشار صرف المضادات الحيوية دون وصفة طبية في سوريا”.

إن التنفيذ الناجح لمثل هذه التوصيات هو السبيل للحفاظ على الاحتياطي الذهبي المتقلص من المضادات الحيوية القوية للغاية، حيث إنه خط الدفاع الأخير ضد السلالات البكتيرية المقاومة التي تسبب حالات عدوى شديدة تهدد الحياة.

ولو وجدت عقوبات رادعة ونفذت لما كنا وصلنا إلى هذه المرحلة، تقول عميد كلية الصيدلة د. لمى يوسف، وتتابع حديثها: “أحد المقترحات في نداء كلية الصيدلة والنقابة للتوعية بمخاطر استعمال المضادات، أن تصبح المضادات الحيوية مثل الأدوية النفسية، يوجد عليها عقوبات قاسية في حال صرفها دون العودة إلى هذه السجلات ودون وصفة طبية من طبيب مختص”، لكن لم يتم تنفيذ هذا المقترح كما يقول نقيب صيادلة دمشق: “كان لدينا عدة مؤتمرات وندوات ومحاضرات حول المضادات الحيوية، لكن لا يوجد تطبيق صارم لمسألة صرف المضادات بموجب وصفة طبية أو قرار آني من وزارة الصحة لترشيد استخدام الأدوية”.

بالعموم فإن المسؤولية مشتركة بين ثلاثة أطراف: المرضى المفترض ألا يلجؤوا إلى العلاج الذاتي، الأطباء الذين يتوجب عليهم التدقيق في وصف المضادات الحيوية، والصيادلة الذين يتحملون مسؤولية صرف مضادات من دون وصفات طبية. فالدكتورة لمى يوسف عميد كلية الصيدلة في جامعة دمشق ترى أن “هناك حالات يتم فيها وصف أدوية لا ضرورة لها. فمثلاً خلال انتشار فيروس كوفيد 19 لاحظنا تصريحات في الوسط الطبي تقول إن البرنامج العلاجي لكورونا يتضمن وصف أدوية من زمرة المضادات الحيوية، وكل المرشدات العالمية تؤكد أنه لا يوجد حاجة لوصفها”. مضيفة “أن اللوم لا يقع فقط على الصيادلة، بل يجب أن يكون الأطباء والصيادلة والمرضى على قدر أكبر من المسؤولية”. ويرد المدير الطبي لمستشفى المواساة على ذلك بالتأكيد أن “المسؤولية تقع على الجميع”، مبيناً أنه خلال فترة انتشار فيروس كورونا تم الاعتماد على بروتوكولات عالمية، ولم يكن هناك أي مضاد حيوي، فالبروتوكول اعتمد فقط على علاجات عامة وإعطاء المضاد الحيوي في حالة الشك بالتهاب جرثومي”.

ويختم الدكتور أيمن البلخي هذا النقاش بالتوضيح أنه “من ضمن أخطاء المقاومة الجرثومية خطأ التداوي الذاتي، ويوجد خطأ من قبل الأطباء الذين يصرفون مضادات حيوية إرضاءً للأهل خوفاً من أن يذهب المريض إلى طبيب آخر”.

الموت:

خطورة الجراثيم المقاومة تكمن في أنها قد تفضي إلى الوفاة أو حدوث وباء، ولذلك فإن قوة المستشفيات تكمن في قدرتها على ضبط تلك الجراثيم والتعامل معها في وقت مبكر، والأهم محافظتها على تحقيق مستوى متقدم من التعقيم حتى لو استهلك ذلك تخصيص ميزانية كبيرة. فعندما تكون الجراثيم مقاومة للمضادات وتحديداً الموجودة في المستشفى فإن الوفاة تكون أقرب كما يقول الدكتور عصام انجق، ومع أن عدد من تتطور حالتهم إلى صدمة إنتانية يبقى أقل إلا أن ذلك لا يقلل المخاوف ولا يلغي الحذر بحسب الدكتور حسام البردان، بينما لا تفوت الدكتورة بنان الخراط الإشارة إلى أن “المريض قد يصاب بأمراض تؤدي إلى دخوله المشفى، لكن هذه الأمراض قد تسبب له ضعف في المناعة وخلل في الدفاعات، وبالتالي إلى إصابته بالإنتان وأحياناً وفاته”.

من جانبه يعلق الدكتور طارق العبد اختصاصي طب الأورام على هذا الملف بقوله “عند السؤال على من تقع المسؤولية قد تبدو الإجابة واسعة للغاية، فالجميع مسؤول عما وصلنا له بداية من نقص التجهيزات الصحية المرتبطة بالتعقيم، وثانياً نقص الكوادر البشرية المسؤولة عن ذلك والتي لا يعتمد بعضها على المعايير الضرورية للتعقيم الكامل، وللأسف فرغم الكثير من التوصيات والدراسات المجراة في المشافي حيال الإنتانات المكتسبة وطرق التعامل معها، إلا أن التطبيق العملي يكاد يكون معدوماً، لا يمكنني أن أعفي الكادر الطبي من جزء من هذه المسؤولية عبر قلة ترشيد المضادات الحيوية وكتابتها بشكل مستمر، أستذكر هنا مثلاً وصفات كانت متداولة في جائحة كورونا ويتم استخدام صادات حيوية لا تفيد في الإصابة التي تصنف طبياً على أنها فيروسية ولا دور لمضادات الجراثيم فيها، ولكن الأمر انتشر بشكل واسع وهنا ايضاً يقع اللوم على بعض من الصيادلة.

ويضيف: لا أغفل هنا المسؤولية الاجتماعية عندما يصر البعض على كسر قواعد التعقيم فأتذكر حادثة في بداية مشوار التخصص حين أصر رجل على إدخال طفليه للعناية المشددة بحجة توديع جدتهم التي توفيت قبل ذلك، رافضاً كل التوجيهات بمنع الدخول وما سيقوده ذلك من خطر على صحة الأطفال باحتمال التقاطهم لعدوى مكتسبة في المشفى ولكنه أصر على ذلك فما كان مني الا منع دخوله والتصادم معه، المسؤولية أيضاً على قلة الوعي المجتمعي من استخدام الصادات الحيوية بشكل كبير، إذ باتت تسجل لدينا حالات لجراثيم تقاوم كل المضادات الحيوية وهو ما سيقود لتكاليف مالية كبرى تتحملها المشافي والمرضى وعائلاتهم.

تعليقات الزوار
  1. تعليقك
  2. أخبرنا قليلاً عن نفسك