الاقتصاد اليوم ـ تغطية شاملة للأخبار الاقتصادية على مدار اليوم

 

في حوار...ميالة: نعم أنا شخص (جدلي) أعيش زيادة عمر والمشهد الأقسى كان في ألمانيا

الاقتصاد اليوم:

أن تكون ذاهب لإجراء مقابلة صحفية مع الدكتور أديب ميالة وزير الاقتصاد والحاكم السابق لمصرف سورية المركزي ولأكثر من 10 سنوات، حتماً فإنك لن تستطيع أن تضبط إيقاع أولوية الأسئلة المتزاحمة في رأسك قبل دفترك، ويصبح ترتيبها مضيعة للوقت، عادةً الشخصيات الجدلية تغري المخيلة، وتلهب حماستك لقراءتها بعيداً عن الصورة الذهنية التي تشكلت لديك عنها عبر قنوات ومصادر مختلفة، ذلك يضعك أمام تحد كبير.

السبت 11 آذار 2017 الساعة الثانية عشر إلا ربع، يجتاز وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك عبدالله الغربي بعشوائية ساحة المحافظة وسط العاصمة دمشق إلى رصيف المصرف التجاري يرافقه شخص واحد، "عم اتمشى" يرد الوزير على ما ساورنا من "فضول"، الفضول يدعوك لمتابعته بالنظر، الوزير يميل في مشيته؟، لكنه يتنقل بخفة، إلى وقت ليس ببعيد كانت حقيبة التجارة الداخلية جزء من حقيبة كانت تسمى الاقتصاد والتجارة، جاء فصلها مع بداية الأزمة لصالح حماية المستهلك، الاقتصاد الكلي يعرج هو الآخر لكن بتثاقل على كاهل المستهلك.

الفضول يقودنا إلى الضفة المقابلة حيث مبنى وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية ينشغل الوزير أديب ميالة بمكالمة هاتفية يتضح فيما بعد أنها كانت مع المهندس عماد خميس رئيس مجلس الوزراء، يشغل "ميالة" أو "يستأجر" وفق تعبيره المفضل أحد أجمل المكاتب الحكومية في الطابق السادس من المبنى، لا تزال اللمسة الأنثوية للوزيرة لمياء عاصي هي الطاغية (شغلت منصب وزير الاقتصاد في السنة الأخيرة لحكومة المهندس ناجي العطر وكانت سابقة أن تتسلمه امرأة، حكي الكثير وقتها عن بذخها في تجديد المكتب الذي لم تمكث به طويلاً) بعدها شغل ذات المكتب أربعة وزراء "ذكور" (نضال الشعار - ظافر محبك - خضر أورفلي - همام الجزائري) خامسهم الحالي أديب ميالة.

يحاول الأخير أن يبدو مستغرقاً في عملية حسابية على نصف ورقة "A4 " يطلب أن نمهله بضع دقائق ما يلبث أن ينهي الحسبة بلحظات، يترأس طاولة اجتماعات مكتبه الخالية إلا من كوب قال إنه يحتوي شاي صيني يستطيع أن يملأه بالماء الساخن كلما انخفض منسوب الشاي فيه إلى الثلث الأخير طيلة فترة جلوسه على حد تأكيده.

إلى أي حد يشبه الاقتصاد السوري في زمن الحرب كوب الشاي الصيني؟، ميزة الشاي الصيني التي تحفظ له ديمومته لفترة طويلة نسبياً مقارنة بالشاي العادي، يبدو أنها كانت  متوفرة في خميرة الاقتصاد السوري، ربما علينا أن نفهم كم من جرعة ماء ساخن أضيفت في فترات متلاحقة على الكتلة النقدية؟ "التمويل بالعجز"، الاقتصاد بلا لون ولا طعمة، الليرة السورية فقدت جزء كبير من قوتها الشرائية، المواطن وحده تجرع الماء الساخن "سادا"، هي الحرب يا سادة سيجيب أي مسؤول في أي من حكومات "الأزمة"، و"ميالة" لم يشذ عن هذه القاعدة في إجابته.

سنوات "المركزي":

منذ العام 2004 وحتى منتصف العام 2016 الفائت كان "ميالة" حاكماً للمصرف المركزي، خميرة المركزي من القطع الأجنبي ربما حفظت له البقاء على كرسي "الحاكم"، أغلب الظن أنه تعامل في سياسته النقدية خلال سنوات الأزمة وفق ميزة الشاي الصيني الذي اعتاد على شربه، من الصعب التعامل مع هذا الشخصية بمعزل عن صفتها في تلك الفترة، يصف الرجل عمله في ذلك المنصب على أنه "مشاور الحكومي المالي" هو منصب فني على ما يقول، يقدم مشورته للحكومة ولها أن تأخذ بها أو ترفضها، لم يكن جزء من الحكومة على حد تأكيده، كان يعنى بالسياسة النقدية كرئيس لمجلس النقد والتسليف.

حادثة اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري 2005 ثم حرب تموز 2006 ، تلتهما الأزمة المالية العالمية 2008 ، ثلاث خضات عايشها الرجل واثرت على سعر صرف الليرة على ما يؤكد، في ربيع 2011 راحت نجومية الرجل تسطع من قناة الاجراءات الحكومية المتمثلة بتدخلات "المركزي" في سوق القطع، نجومية أثارت جدلاً واسعاً، في كل مناسبة حدث فيها تعديل وزاري كانت الاشاعة المنبثقة من الرغبة ربما لدى الشارع الاقتصادي ترشح إقالة "الحاكم" من منصبه، عاصر أربع حكومات ثلاثة منها خلال الأزمة.

_ هل أفلست يوماً خلال سنوات الأزمة الراهنة من الحلول وتمنيت لو أنك لم تكن في منصبك كـ"حاكم"؟.

الوزير: لا أبداً ولا مرة شعرت أن وضع الليرة خارج السيطرة.

صيف 2013 حدث أول انهيار دراماتيكي لليرة كانت حافظت الليرة نسبياً على سعرها مع هبوط هادئ ومتدرج أول سنتين على بداية الأزمة، بدأ الانهيار من قاعدة ( دولار = 130 ل.س) وفي غضون أقل من شهر انخفضت قيمتها إلى (دولار = 330 ل.س)، كانت أسعار المستهلك مقبولة نسبياً، ولا زال المواطن يحتفظ ببعض مدخراته، تدخل وقتها المركزي بقوة وضخ كميات كبيرة من الدولار في السوق عبر شركات الصرافة فانخفض سعر الدولار إلى ما دون الـ 200 ل.س، كانت مناسة جديدة لمنتقدي "ميالة" لاتهامه بتبديد الاحتياطي الأجنبي.

_ ألم يكن من الأسلم تثبيت سعر الصرف عند ذلك السعر للحد من المضاربات؟.

الوزير: سؤال مشروع، لكن ثمة أمور "فنية" بحتة في تلك الفترة دعتنا إلى ذلك.

خلال مجمل المقابلة لجأ الدكتور "ميالة" لاستخدام عبارة "أمور فنية" في كل مناسبة تتعلق بإجراءات سعر الصرف، هو لا يريد أن يكشف تفاصيل أكثر، يلتزم السرية المصرفية فهو لازال في موضع المسؤولية.

ربما في إجابة "ميالة" عن سؤالنا حول أصعب الفترات التي مر بها خلال عمله ما يمكننا ترجمة كلمة "فنية"..

الوزير: كل الفترات كانت صعبة، لكن المشهد الأقسى بالنسبة لي، عندما سافرت إلى ألمانيا وشاهدت بعيني مستودع كبير ممتلئ بالأوراق النقدية من فئة الألف ليرة سورية التي تحمل صورة القائد الخالد حافظ الأسد، كانت امتنعت الحكومة الألمانية بعد فرض العقوبات الأوربية عن تسليمنا إياها بعد طباعتها، قال لي أحد المسؤولين الألمان "بفوقية" أن الاتحاد الأوربي سيغطي تكلفة طباعتها، حاولت أن أتمالك أعصابي، وكان ردي إن من سيدفع ثمن طباعتها هو دافع الضرائب الأوربي، وأقفلت عائداً مصطحباً معي "البلاكات"، مثلها فعلت الحكومة الهولندية، بعدها لجأنا إلى الصديقة روسية لطباعة النقد.

_ هل كان إصدار جديد ؟

الوزير: لا، كانت تلك الطبعة لتعويض الأوراك التالفة.

يمتنع "ميالة" عن تحديد تاريخ تلك الحادثة، لكن يمكن التنبؤ بها، لعلها حدثت في بداية السنة الثانية من الأزمة شاع حديث وقتها عن أزمة سيولة بالليرة السورية، يروي "ميالة" أنه حتى نهاية العام 2011 حاول المركزي تجنب الانجرار وراء اسعار سوق الصرف السوداء، كانت الأولوية عدم إضافة عنوان آخر للمظاهرات المدبرة آنذاك يكون مرده زيادة أسعار السلع الاستهلاكية، طبعاً لا يمكن أن ننسى الإجراء الذي سمح ببيع 10 آلاف دولار  في تلك المرحلة لمن يرغب من المواطنين، هو إجراء فني على ما يبدو، "ميالة" يتجنب التفاصيل.

ينفي "ميالة" الأقاويل التي شاعت في السنوات الأولى من الأزمة عن حيازة دول مثل السعودية وقطر مئات المليارات من الليرة السورية، واستخدامها للمضاربة على الليرة في لبنان أو المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة.

يربط الرجل كل مناسبة تراجعت فيها قيمة العملة المحلية بواقع أمني جلل، الشهر التاسع من العام 2012 مثلاً تراجع سعر صرف الليرة مرة أخرى (دولار = 225) وكانت التهديدات الأمريكية حاضرة وبقوة لضرب الدولة السورية، بعد افتعال حادثة الكيماوي، تدخل المركزي وأعاد الدولار إلى نحو 150 ل.س مع تذبذبات بحدود من 10 الى 20 ل.س، وحتى الربع الأخير من العام 2014، تقلبات سعر الصرف كانت مقبولة وضمن السيطرة، بعدها بدأت مناطق واسعة من الخروج عن سيطرة الدولة (بدءاً من الرقة ثم إدلب، مروراً بحصار المجموعات المسلحة لما بقي مع الدولة من مدينة حلب) الدولار فوق 400 ل.س.

الانزلاق الأخطر كان في الربع الأول من العام 2016 الدولار إلى 630 ل.س، الكل توقع أن فرامل المركزي تعطلت، إلا "ميالة" في كل مرة كان يبرر تراجع سعر الصرف، ويرجعه إلى المضاربين والاشاعات، ربما حدث خلل في الحالة الفنية للمركزي.

على سيرة الحالة الفنية، ننقل ما رواه الدكتور "ميالة" عن حادث سير خطير كان تعرض له في العام 1998 بعد دخوله الحدود اللبنانية وكاد أن يودي بحياته، الرجل أرجع سبب الحادث لعيب فني في مكابح سيارة المرسيدس 230 التي كان يملكها، وللحالة الفنية للطريق مع بداية أو هطولات مطرية في تشرين ثاني من ذلك العام، وليس بسبب السرعة الزائدة أو قلة الخبرة في القيادة وفق تأكيده.

الوزير: انا أعيش زيادة عمر شارفت على الموت مرتين حادثة السير وقبلها عندما أصبت بمرض وأنا صغير، طيلة عملي في "المركزي" كنت أدخل إلى المكتب وكأنني لن أخرج أبداً، وعندما أخرج أغلق باب المكتب وكأنني لن أعود أبداً، فكنت أعمل بكل طاقتي، وأنهي عملي لأخرج مطمئناً أن الأمور ممكن أن تسير من دوني.

نيسان العام 2013 تعرض مقر "المركزي" لأعنف تفجير حدث خارج المبنى، يؤكد "ميالة" أنه كان في مكتبه وربط مصيره بمصير العاملين.

مشروع وزير الاقتصاد:

يتحضر وزير الاقتصاد لطرح مشروع زيادة الانفاق الحكومي، أمر لطالما رفضه عندما كان حاكماً للمركزي، يخرج قصاصتي ورق من جيبه مكتوب عليهما بالأخضر، كنت أتحدث مع رئيس مجلس الوزراء بهذا الأمر قبل دخولك بقليل يقول الوزير.

_ لماذا الآن هل اختلفت زاوية الرؤية؟

الوزير: لأننا في مرحلة الخروج من نفق الأزمة، وهذا يحتم علينا زيادة الانفاق الحكومي وبالأخص الاستثماري، لنقرأ البيان الحكومي وهو إمام العمل، يقول البيان: "تحقيق مستويات نمو أعلى ورفع معدلات الاستثمار"، وهذا بالضرورة يحتاج إنفاق حكومي  كبير جداً على الجانب الاستثماري، عندما كنت حاكماً للمركزي كانت الرؤية ضبابية، أما الآن فنحن في فترة تعافي والجيش يحقق يومياً مزيداً من الانتصارات على كامل الرقعة السورية.

_ لكن الحكومة لا تفعل ذلك؟

الوزير: أنا لست وزير مالية، أنا أحدثك عن فكر وزير الاقتصاد.

_ هل أنت قادر على إقناع باقي الفريق الاقتصادي؟.

الوزير: ما أقوله مقنع وواضح وأنا ماض في هذا المشروع.

_ ألن يؤثر ذلك على سعر الصرف؟

الوزير: توقعت منك هذا السؤال، لنتذكر الحالة الألمانية إبان نهاية الحرب العالمية الثانية وانهيار عملتها آنذاك، استطاع نفس رجال الاقتصاد الذين عاصروا الحرب العودة باقتصاد بلدهم في وقت قياسي ليكون أحد أهم الاقتصادات العالمية وتحسن سعر صرف "المارك" وضاهى أهم العملات الأوربية.

يعلم "ميالة" أن فكرته بزيادة الانفاق الحكومي سوف تثير جدلاً كبيراً، فهمها البعض على أنها إحراج للحكومة ولخليفته في منصب "الحاكم"، بمجرد أن نشرنا الخبر بعيد إجراء المقابلة، يعترف الرجل بأنه شخصية جدلية، ولا يعتبر أن هذه الصفة تنتقص منه ومن عمله.

ينتهي وقت المقابلة ولا ينتهي الحديث الذي استمر لأكثر من ساعة ونصف كنا استلفنا نحو نصف ساعة من زملاء إعلاميين كانوا على موعد مع الوزير دخل علينا سكرتيره الخاص ثلاث مرات ليخبرنا أن الوقت انتهى، على أن نكمل المقابلة في وقت لاحق.

نقلا عن صاحبة الجلالة

تعليقات الزوار
  1. تعليقك
  2. أخبرنا قليلاً عن نفسك