الاقتصاد اليوم ـ تغطية شاملة للأخبار الاقتصادية على مدار اليوم

 

قانون المنافسة يروي حكاية ثلاثة موظفين تحكّموا باقتصاد سورية الزراعي ودخلوا نادي المليارديرية

الاقتصاد اليوم:

حمّل المدير العام السابق لهيئة المنافسة ومنع الاحتكار الدكتور أنور علي، مسؤولية ما يجري في سورية من فساد وفقر وبطالة ومشاكل سعر الصرف وانخفاض القدرة الشرائية لليرة، وحالات التردي الإداري وعدم وجود الرجل المناسب في المكان المناسب، وانخفاض مستوى المعيشة وارتفاع الأسعار وتردي الخدمات وتراجع الابداع وعدم تحفيزه، وسوء الأداء في الصناعة والتجارة والتربية والتعليم، وضحالة العمل في البنوك العامة والخاصة، وارتفاع الأقساط في الجامعات والمدارس الخاصة، وكذلك أزمات الخبز والنقل والنفط والغاز، ومختلف المعاناة في المجالات الاقتصادية والخدمية .. كلها حمّلها بالنهاية إلى عدم تطبيق قانون المنافسة ومنع الاحتكار، الذي من شأنه القضاء على هذه المشاكل كلها عند حسن تنفيذه..!

في الواقع كنتُ أنا والكثيرين نعتقد بأن المنافسة ومنع الاحتكار تختص بشؤون الأسواق وحدها، وإذ بهذه الأسواق ليست سوى جانب من الجوانب العديدة التي يطالها القانون في الحياة السورية بمختلف اتجاهاتها، فهو مؤثّر على المجتمع ككل، وكفيلٌ – في حال تطبيقه حسب الدكتور أنور – أن يحقق نهضة اقتصادية حقيقية، مستندة إلى أسسٍ علمية تنهض بالاقتصاد السوري، وتجعله منافساً على مستوى العالم وعلى المستوى المحلي، ويحقق التنافسية بالسلع المنتجة في سورية عالمياً، فلدينا سلع تنافس بقوة كالقمح والقطن وزيت الزيتون، كما يحقق التنافس في الخدمات، في الصحة والاتصالات والمياه والنقل والكهرباء، ويجعل منها أفضل الخدمات وبأقل التكاليف، كما ويضمن وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، فهو يكفل ذلك ليصل بالنتيجة إلى دخلٍ محترم لطبقات المجتمع ولاسيما المتضرّرة، وإيرادٍ ممتاز لأصحاب الفعاليات الاقتصادية، ولكنه مع الأسف لا يُطبّق ..!

 وخلال محاضرة شيّقة قدمها الدكتور أنور ضمن فعاليات جمعية العلوم الاقتصادية مؤخراً، وذلك في قاعة مديرية ثقافة دمشق بأبي رمانة، أشار إلى أنّ المنافسة يحققها قانون العرض والطلب، معتبراً أن اللاعبين في السوق السوري، أو حتى في الاقتصاد السوري جاءتهم هذه الأزمة كفرصة كبيرة باعتبار أن هناك مقاطعة وعدم تحويل أموال، وشحّ في الأموال عند الدولة، فانتهز البعض هذه الحالة وانفردوا ببعض المواد الأساسية في السوق السوري، منتهجين نوعاً من الاحتكار – من ضمن مجموعة أنواع – وهو احتكار القلّة، فقد يسيطر شخص أو شخصين على مادة الأرز، وغيرهما على السكر، وآخران على الشاي .. وآخران على الموبايلات .. وآخران أيضاً على الدخّان .. وهكذا فإن قام هؤلاء بطرح موادهم في السوق بشكلٍ حر فلا بأس، أما إن قاموا بالتحكّم بهذه المواد وتحديد الكميات التي ستُطرح منها وبما يقل عن حاجة السوق، وتحديد أسعارها بشكل يزيد عن السعر الحقيقي فهذا ممنوع ومخالف لقانون المنافسة، والدولة قادرة على التدخّل والحد من هذا الواقع من خلال تطبيق قانون المنافسة ومنع الاحتكار، ولا نحتاج إلى شيء سوى إلى ذهنية تؤمن بالقانون وتعمل على تطبيقه.

رحلة في التاريخ القريب

عاد الدكتور أنور في الذاكرة قليلاً إلى الوراء ليشير بأن الحكومة السورية كانت قد قرّرت في عام 2007 انتهاج ما يُسمى باقتصاد السوق الاجتماعي، وهو في الحقيقة انتقال من الاقتصاد الاشتراكي المُخطط، إلى الاقتصاد الرأسمالي، وكلمة اجتماعي نحن أخذناها في الحقيقة من دولة معينة للتلطيف، وخلال هذه الفترة صدرت الكثير من القوانين، كان يتطلبها اقتصاد السوق الاجتماعي، وجرى تعديل الكثير من القوانين القائمة، فهذا النمط من الاقتصاد – الذي سبقتنا إليه الكثير من الدول الأوروبية ولاسيما ألمانيا – عليه أن يُعالج أوضاع الطبقات الفقيرة، لأن هناك شركات واستثمارات كبيرة قد لا تُراعي أحوال الناس أصحاب الدخول القليلة، وهذا ما يتوجب على الدولة أن تقوم به لرعاية الطبقات الفقيرة.

في الحقيقة كان هناك تأخير في مراعاة أحوال هؤلاء، إذ بقينا نشتغل بالعقلية التعيسة، التي تعتمد البطاقة التموينية، والسكر والرز ( ويوم مزورين الرزّات .. ويوم السكرات ) فللأسف ضعفاء النفوس كثر.

في هذه الفترة كانت الخاتمة بإصدار قانون المنافسة ومنع الاحتكار، رقمه 8 لعام 2007 وهو قانون العرض والطلب، أي وصلنا إلى مرحلة قوننة المنافسة وحمايتها، وحماية المنافسة تعني لا يوجد احتكار.

قناعة ضبابية بإعمال المنافسة

ففي السوق السورية عندما تُطبق المنافسة، وسياسة المنافسة تكون صحيحة، ومُصانة من قبل الدولة، ومن قبل صنّاع القرار الاقتصادي، فإن عملية المنافسة تظهر على حقيقتها، ولكن للأسف اصطدمنا بعقلية وذهنية غير مؤمنة بهذا القانون، الكثير من صنّاع القرار الاقتصادي غير مقتنعين به، فالكثيرون يقولون : ما هذا القانون ..؟! يا أخي هكذا الدولة ارتأت أن يكون هذا القانون، واعتمدته وأصدرته بعد اعتماده من مجلس الشعب، استناداً إلى دستور الجمهورية العربية السورية.

( الفقرة 3 من المادة 13 من الدستور تقول : تكفل الدولة حماية المنتجين والمستهلكين، وترعى التجارة والاستثمار، وتمنع الاحتكار في مختلف المجالات الاقتصادية، وتعمل على تطوير الطاقات البشرية، وتحمي قوة العمل بما يخدم الاقتصاد الوطني )

ومع هذا في الحقيقة – يقول الدكتور أنور – لستُ مقتنعاً عملياً أن هناك تطبيق للقانون، فلا نرى قناعة عند صنّاع القرار الاقتصادي بتطبيقه لأسباب نجهلها، فربما تكون ناجمة عن جهل بالقانون، أو أنهم لا يريدون أن يعرفوا، ولا أن يروا نتائج تطبيقه على الاقتصاد السوري وكيف سيتطور ..؟ وما الذي سيُحدثه فيه ..؟ أو أن هناك ارتباطاً بين ضعاف النفوس وصنّاع القرار الاقتصادي، وبين الفعاليات الاقتصادية، وقد يكون الاثنان معاً.

هناك العديد من المظاهر باتجاهات مختلفة والتي نراها تطفو على السطح، هي أساساً مخالفة لقانون المنافسة، فعندما فُتح المجال أمام إقامة الجامعات الخاصة كان من المفترض أن يستمر هذا المجال قائماً ليتنافس الكثيرون في ذلك ويتمكّن المستهلكون بعدها من اختيار الأفضل والأنسب، ولكننا وجدنا وكأنّ الجامعات الخاصة قد نامت.

وكذلك الأمر بالنسبة للمصارف الخاصة، فقد جرى إحداث العديد من هذه المصارف، ودخلنا دخلة قوية في هذا المجال، ولكن هل استطعنا أن نحقق المنافسة الحقيقية في هذا المجال ..؟ لا .. فقد توقف الأمر عند حدٍّ معين، فضلاً عن أن مصرف سورية المركزي أمسك بها كلها وهو يسيّرها على نظام واحد محدد، فأين حماية المستهلك وتحقيق رغبته ..؟! فالبنك الذي ميزانيته 100 مليار دولار – مثلاً – يريد أن يعطي فائدة 12% لماذا لا نتركه يعطي الفائدة التي يريدها ..؟ والبنك الذي تكون ميزانيته أقل فليحدد الفائدة التي تناسبه .. ما الذي يمنع ..؟ وكذلك الأمر بالنسبة لشركات ومكاتب الصرافة، والمصارف العامة أيضاً .. كلها واحدة .. وهذا كله مخالف لقانون المنافسة.

وأوضح الدكتور أنور أنه بين العام 2007 و2011 عانت هيئة المنافسة كثيراً عندما أصرّت على تطبيق القانون على بعض المحتكرين، ففي وزارة الزراعة – على سبيل المثال – كان هناك ثلاثة موظفين في الوزارة يمارسون الاحتكار للمبيدات الزراعية على نحو كبير، كانوا يتحكّمون بهذه المادة، وهذا يعني أنهم يتحكمون بالاقتصاد الزراعي في سورية، وكل واحد منهم أصبح مليارديراً، فالمواد ستؤخذ من عندهم قسراً، وعروض الأسعار كانت تُفصّل على قياسهم، أي لا يوجد منافسة في هذا المجال إطلاقاً، فبدأنا بمعالجة القضية انطلاقاً من أن القانون يمنع ذلك، فقامت الدنيا ولم تقعد، ولكن استطعنا بالنهاية إلغاء عملية التمييز الحاصلة من خلال قانون المنافسة ومنع الاحتكار، وهذا كثيراً جداً ما كان يحصل، فهو ينسحب على العطاءات والمناقصات والمزايدات، كانت تخضع كلها لنفس الحالة.

وأرجع الدكتور أنور عدم تطبيق قانون المنافسة إلى أنّ الإرادة الحقيقية لتطبيقه غير متوفرة، وبالتالي لن تتحقق المنافسة الحرة العادلة والشفافة، فهذا القانون يجعل اللاعبين الحقيقيين يدخلون إلى السوق بالتوازي ويكون البقاء للأصلح، ولكن مع الأسف صرنا نلحظ أن السيء هو الذي يبقى، والذي يريد التطوير والتحديث والإبداع يُقصى جانباً، وهذا كله نحصد نتائجه المريرة حالياً لعدم إعمال سياسة المنافسة في السوق.

هذه الحالة استمرت حتى عام 2011 ثم جاءت الأزمة فلم يعد هناك أي مقياس للاقتصاد السوري، وظهرت العديد من الحالات الصعبة واللامعقولة، وقانون المنافسة في الواقع يحتاج إلى استقرار اقتصادي وسياسي واجتماعي وهذه الحالات مع الأسف غير موجودة، إذ لاحظنا ما الذي حصل بزراعتنا وصناعتنا واستثماراتنا، فهذه الأمور اللازمة للتطبيق زالت، فأنتَ كمستهلك لم يعد لديك الكثير من الخيارات لتتعامل مع صاحب هذه السلعة أو تلك لتحقيق رغباتك.

على كل حال ما تزال هناك عقول مغلقة تجاه هذا القانون، وكلنا يعلم أنه لا توجد دولة في العالم تبيع بطاطا ورز وبندورة إلاّ سورية، وإذا استعرضنا تاريخ هذه الأنشطة المتعلقة بالدولة من خلال هذه المواد وأحصينا حالات الفساد والسرقة التي وقعت فيها ( ويقصد هنا السورية للتجارة بمجمل المؤسسات والشركات المدمجة بكيانها اليوم ) لجاءت بمقدار موازنة سورية لسنوات عديدة، والحل موجود بالتأكيد، فصاحب القرار عندما يريد الحل .. تُحل .

واليوم – مثلاً – أن تريد فرناً لصناعة الخبز فأنت تحتاج إلى موافقة وزارة التجارة الداخلية، ورئيس الحكومة، وقد يصل بك الأمر إلى السيد رئيس الجمهورية للحصول على رخصة فرن .. ولا تحصل .. لماذا ..؟!

لماذا لا يكون في كل حارة فرن وبلا هذه المظاهر السلبية السيئة ..؟ دعِ الناس تتنافس، فكل حارة مليئة بالدكاكين فلماذا هذا الأسطول من الموظفين المسيئين للبلد..؟!

بالعموم الشفافية والمساواة والعدالة هي من أهم مستلزمات تحقيق المنافسة في الاقتصاد السوري، والثقة المتبادلة بين الحكومة وقطاع الأعمال ضرورية، فقطاع الأعمال مهم جداً، واليوم معمل يُشغّل 100 موظف أفضل من كل هذه المؤسسة – ويقصد السورية للتجارة – التي اعتبرها عالة على البلاد، فهي تدفع الرواتب وتستهلك الكهرباء والسيارات والبنزين.

ولكن الدكتور أنور عاد لينتقد قطاع الأعمال متهماً إياه بالتملّق ومحاباة السلطة، مشيراً إلى أن غرف التجارة والصناعة والزراعة لا مشكلة لديهم بأن يحضروا الاجتماع، يبجلون الوزير ويُمجّدونه، يوقّعون المحضر ويمشون، واعتبر أن هذا أمر طبيعي مادامت قادة هذه الغرف يأتون بهم بطرق غير صحيحة وبتدخّلات، بينما هم يجب أن يمتازوا بالأخلاق والقدرة على أداء المهام، ويجب اختيارهم بوجدان وأخلاق وقيم بما يحمي مصالح المستهلك وتحقيق المنافسة، وبما يحمي هذه المهنة، فما الفائدة عندما يأتون بشخصٍ ويضعونه رئيساً لغرفة معينة .. غرفة السياحة مثلاً، وليس له علاقة بالسياحة، ولا له أي مشاريع سياحية ..؟! فما المعنى من هذا الاختيار ..؟ وإلى أين يوصلنا ..؟! وكيف سأحقق المنافسة أيضاً ..؟!

فعدم القناعة بالأشخاص هي مشكلة كبيرة فعلاً – يقول الدكتور أنور – إذ كيف يمكن لأي مدير عام أو مدير .. أو أي موظف في وزارة تعمل في التموين والتجارة والاقتصاد، أن يقتنع بأن يكون وزيرهُ طبيب أسنان ..؟! ما علاقته بالتموين والتجارة ..؟! وكيف يمكن لشخص يحمل إجازة في اللغة العربية ويكون وزيراً للزراعة ..؟! هذا غير معقول، هناك أناس خبراء تليق بهم الأماكن والمناصب المناسبة، فهذا الأمر يؤدي إلى إضعاف روح المبادرة لدى الأشخاص الوطنيين، فالعديد من الوزراء يأتون إلى وزاراتهم فيعتبرونها مزرعة لهم، فيصدر قرارات عشوائية لامعنى لها، وأول ما يبدأ بتغيير السكرتيرة .. أو السكرتير، ثم بتغيير المدراء دون مبرر فيخرّب الوزارة ويعيدها سنوات إلى الوراء .

هذا كله له منعكسات تؤثر على حماية المستهلك وعلى عدم تنفيذ رغباته، وطبعاً قانون المنافسة ومنع الاحتكار يمنع هذه الحالات كلها في حال وجود أشخاص قادرين على العمل، مؤمنين بتطبيق هذا القانون بذهنية مفتوحة للعمل وفق القوانين الجديدة، فأنت اليوم عندما تجهل شيء فإنك لا تستطيع الدفاع عن الأفكار الواردة فيه، فعدم تطبيق قانون المنافسة في الحقيقة ينعكس سلباً على الاقتصاد الوطني، ويؤدي إلى عدم التنمية، وإلى انتشار الفساد، وتدنّي مستوى الدخل، وعلى التطور والإبداع، فعندما لا يكون هناك منافسة سيتمكن البعض من السيطرة على السوق وعلى مختلف جوانب ومفاصل الحياة الاقتصادية والخدمية.


علي جديد

الايام

تعليقات الزوار
  1. تعليقك
  2. أخبرنا قليلاً عن نفسك