الاقتصاد اليوم ـ تغطية شاملة للأخبار الاقتصادية على مدار اليوم

 

مركز مداد يضع وصفة لإخراج الاقتصاد السوري من الركود العميق..تعرفوا عليها

الاقتصاد اليوم ـ خاص:

الدكتور مدين علي

مركز دمشق للأبحاث والدراسات "مداد"

إن مشكلة الركود العميق الذي يعيشه الاقتصاد السوري، لا ترتبط كما نرى بأسباب الندرة على مستوى العرض النقدي. بمعنى أنها ليست نتيجة لنمو في حجم الناتج المحلي الإجمالي بمعدل يتجاوز معدل النمو في حجم الكتلة النقدية.

فقد تراجع الناتج المحلي الاجمالي السوري طوال سنوات (2010-2016) من (60.2) مليار دولار إلى (26.4) مليار دولار، أي أنه تراجع بمقدار  (56.14%) وذلك بحسب تقديرات اللجنة الاقتصادية لغرب أسيا، في الوقت الذي استمرت فيه الكتلة النقدية (M0) تنمو بصورة مستمرة ومتواصلة (بحسب بعض التقديرات) بمعدل يتراوح بين (19  - 23%) طوال السنوات (2012 - 2016)، وكذلك الأمر بالنسبة لـ (M1) التي تطورت بمعدل كبير منذ عام 2013، تراوح بين ( 20% و23%) طوال السنوات (2013 - 2016) أيضاً  مع الأخذ بالحسبان ارتفاع  نسبة (M0/M1) من (57.5%) عام 2012 إلى (60.66%) عام 2016، وذلك بسبب التضخم، والارتفاع في المستوى العام للأسعار، الذي سيّل قسماً كبيراً من مدخرات السوريين. وتسبّب بقوةٍ في تراجعٍ كبيرٍ في حجم العرض النقدي الحقيقي .


إلا أن استمرار التراجع في حجم العرض النقدي الحقيقي في عام 2017، والنصف الأول من عام 2018، يطرح بدوره الكثير من علامات الاستفهام الكبرى، حول وضع السوق، ومصير السيولة النقدية من قبيل: أين ذهبت السيولة وكيف؟ لماذا جفـّت السوق بهذه السرعة والحدة، رغم الاستقرار النسبي والهدوء، الذي تحقق في المستوى العام للأسعار (بل الانخفاض أحياناً)؟ ما الحكمة في ذلك؟ هل ازداد حجم الاحتياطي من القطع الأجنبي؟ من الذي اشترى؟ وممن اشترى؟ ومن الذي باع، ولمن؟ كيف يمكن استعادة تلك الأموال، لتدخل في دورة النشاط الاقتصادي من جديد؟ تساؤلات كبيرة وهامة، والإجابات عليها تندرج في نطاق المهمة الكبرى، والمسؤولية التاريخية للإدارة النقدية والمالية، وبالتالي في صميم نشاطها ومهامها وعلى رأسها البنك المركزي؟

في إطار الرؤية البديلة لإخراج الاقتصاد السوري من المحنة الراهنة، سواء أكان ذلك لجهة ما يتعلق بتأمين الموارد المالية، وخلق مصادر التمويل، أم لجهة ما يتعلق بتمويل خطة إنعاش للاقتصاد السوري، تؤسس لاستقرار سياسي واقتصادي، نعتقد بأنه يمكن العمل على مستوى مدخلين هما:


المدخل الأول: مدخل اقتصادي مصرفي فني/تقني: وهذا المدخل تفصيلي، يندرج حصرياً في نطاق مهام واختصاص الإدارة النقدية، لكنه يتكامل بقوة مع عناصر المدخل العام، الذي سنستعرض مكوناته بعد قليل. ويتضمن هذا المدخل مجموعة من التدابير والإجراءات النقدية العاجلة، التي يمكن أن تساعد في تصميم خطة إنعاش وإنقاذ حقيقية للاقتصاد السوري منها:

1.    تغيير النقد السوري: وهي خطوة قد تبدو صادمة، وغير مقبولة للوهلة الأولى، ومُستهجنة من قبل البعض، وندرك بأن هذا المقترح سيواجه هجوماً عنيفاً من قبل جهات متعددة أبرزها:

‌أ.    من يدخرون ويمسكون بكميات كبيرة من النقد السوري. وهنا قد يوجد جهات متعددة، تمسك بقوة بكميات كبيرة بالنقد السوري، لأهداف وغايات مختلفة، لا يتسع المقام للخوض في تفاصيل سلوكها ودوافعها.

‌ب.    بعض المكونات والأطراف في السلطتين النقدية والمالية التي ستهوِّل من تكاليف هذه الخطوة، والمخاطر التي يمكن أن تترتب عليها.

‌ج.    البعض ممن يعتقد بأنهم يملكون الخبرة وعلوم البداية والنهاية في الشؤون النقدية والمالية.

لكننا في جميع الأحوال نعتقد بأنها خطوة نوعية، تساعد إلى حدٍّ كبير في إفراغ الأقبية والمستودعات من مئات المليارات من الليرات السورية، التي خرجت من سوق التداول لأسباب كثيرة، والتي ستترتب عليها تداعيات ومنعكسات خطيرة في لحظة ما، تتوقف على طريقة التوظيف، ويبقى من المفيد الإشارة إلى أن تكاليف التغيير أقل بكثير من تكاليف عدم التغيير.

2.    إعداد خطة تمويل وسياسة إقراض مرتبطة بغايات محددة، تركز بصورة جوهرية على عملية تحفيز الإنتاج، الذي يغذي العرض الكلي، ما سيؤدي بدوره إلى تخفيض المستوى العام للأسعار، وبالتالي تقليل مدى الحاجة للنقد، تأسيساً على النظرية التي تقول إن العرض يخلق أو ينتج الطلب ، وهذا يتطلب وجود خطة حكومية متكاملة، لتفكيك بنية الاحتكار المتحكم بالسوق السورية.
3.    تنشيط حركة دوران النقد، وهذا يتطلب تنشيط عملية التبادل (كمية/حجم المبادلات)، عن طريق تسهيل المبادلات، والحد من العقبات البيروقراطية، وضمان هامش ربح أو عائد، يحفز على الاستثمار والتوظيف، وتحقيق الاستقرار الاقتصادي. وهذه خطة يمكن أن تقلل من حجم العرض النقدي المطلوب لتنشيط الاقتصاد السوري.

4.    تخفيض سعر الفائدة على الودائع الادخارية، الأمر الذي سيؤدي إلى زيادة العرض النقدي السائل وشبه السائل (Mo)، على حساب (M1) و (M2)، ما سيسهم في تحريك عجلة الإنفاق الاستهلاكي الذي يعد أحد أهم المكونات التحفيزية على مستوى الطلب الكلي، التي يمكن الرهان عليها لزيادة معدل دوران النقد هذا من جانب، كما يسهم في تخفيض تكلفة رأس المال، ما يحفز على الاستثمار من جانبٍ آخر.

5.     التوجه نحو تنفيذ سياسة اقتصادية نقدية توسعية، لكن بخطوات وبجرعات تجريبية صغيرة، ونسب محدودة جداً، لأن السوق يمكن أن تنطوي على عناصر مفاجئة، غير مأخوذة بالحسبان، بسبب حالة الملابسات والغموض التي تحيط بمسألة انخفاض العرض النقدي. وهذ يمكن أن يساعد في تحريك الطلب الكلي، الذي سيكون له أثرٌ تحريضي لجهة ما يتعلق بتقصير دورة النقدية، وبالتالي تنشيط الاقتصاد وتحفيز الإنتاج.

6.    تعزيز ثقة الناس بالنظام المصرفي ونواياه الحقيقية، وذلك من خلال تعزيز مناخ الشفافية والوضوح والنزاهة.

7.    تطهير الأجهزة المصرفية من العناصر الفاسدة وضعاف النفوس ونفوذ جماعات الضغط والمصالح.

المدخل الثاني: مدخل مؤسساتي/سياساتي عام: وهذا المدخل يندرج في نطاق المشروع الخلاصي للدولة السورية، وإعادة الهيكلة الكلية للاقتصاد، وليس من اختصاص الإدارة النقدية ولا المالية، ويتضمن مجموعة من الإجراءات والتدابير النوعية، التي تضع إدارات مختلف مؤسسات الدولة، بما فيها الإدارة النقدية والمالية في المسار الصحيح، وتساعد في الوقت ذاته أيضاً، على تأمين مصادر تمويل ترفد الخزينة العامة للدولة السورية بموارد مالية كبيرة، تساعد في تحفيز الاقتصاد السوري، وتنشيط الدورة الاقتصادية والانطلاق في عملية إعادة الإعمار والبناء. منها:

1.    تنفيذ حملة نوعية (حقيقية) كبرى على أجهزة الفساد والفاسدين، ورجال المافيا الاقتصادية، وتفكيك بناها واستئصال جذورها، وذلك بواسطة خطة استراتيجية، تنطلق من رفع الغطاء، وكشف الحقائق، والوقائع المرتبطة بملفات الفساد الكبرى، في قطاعات النفط والغاز والتعليم والمالية والجمارك والاقتصاد ومختلف القطاعات، والإطاحة برموزها والشبكات المرتبطة بها، ومحاكمتهم بصورة علنية، ومصادرة أموالهم عن طريق وقائع جلسات علنية، تحت أضواء الكاميرات والفضائيات، بصورة يمكن أن تساعد في ترميم وتصليب جسر العلاقة المهتز بين المواطن والدولة، جراء الفوضى وغياب المحاسبة طوال سنوات الحرب وقبلها.

2.    أما وقد استعادت الدولة سلطتها على معظم أراضي الجمهورية العربية السورية، فقد بات لزاماً على الدولة، التوجه بقوة نحو حسم الخيارات المتعلقة بهوية الدولة الاقتصادية، ما يعني ضرورة التوجه نحو تنفيذ حزمة إجراءات إصلاحية صادمة وقوية، تتجاوز حدود فكرة أن الإصلاح الإداري هو المدخل الصحيح لمكافحة الفساد، وهو المدخل للإصلاح الاقتصادي، وبالتالي المدخل لبناء سورية الحديثة.

3.    الإقرار بأن الإصلاح في سورية عملية مركبة، تقتضي من الناحية الموضوعية السير بمسارات متلازمة سياسية واقتصادية واجتماعية، تبدأ من إصلاح المرجعيات والأطر التي تضطلع بدور مركزي في صنع القرار ورسم السياسة العامة للدولة في مختلف مجالات الحياة.

4.    التخلي عن بعض الخيارات التي راهنت عليها الدولة السورية سابقاً في إدارة الشأن العام سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، والإقرار بأنها كانت عقيمة ووصلت إلى جدار مسدود، بل أسست لأزمة بنيوية خلقت أرضية قابلة للانفجار بصورة دائمة ومستمرة، وأنه لا يمكن الرهان عليها مستقبلاً، كي لا يتكرر المشهد بصورة لا تبقي ولا تذر .

5.    إطلاق برنامج تحرير اقتصادي وخصخصة واسع النطاق، في جميع القطاعات، يطال مختلف الشركات والمؤسسات، التي لا يمكنها العمل بمعايير الحوكمة ونظم التشغيل والأداء العالمية. وهذا يتطلب تقييم جدواها الاقتصادية والمالية، ومن ثم تصنيفها ضمن ثلاث زمر هي: (يمكن أن تستمر لأنها ذات جدوى، لا يمكن أن تستمر دون مساعدة ودعم تمويلي، لا يمكن أن تستمر لأنها خاسرة وخارج السياق)، وعليه يتم الإبقاء على المؤسسات والشركات الاقتصادية الإنتاجية والخدمية، التي لها جدوى اقتصادية ومالية فقط.  يُستثنى من ذلك قطاعات التربية والتعليم العالي والصحة في سورية، لأن نشاط القطاعات المذكورة، يرتبط بحقوق تنموية إنسانية أساسية  لشرائح ومكونات اجتماعية غير متمكنة بغالبيتها من الناحية المالية والاقتصادية. لكن ما يجب أن يؤخذ بالحسبان أن واقع قطاعات التربية والصحة والتعليم مرفوض، بسبب الفساد والهدر وانخفاض نوعية الخدمة، ما يعني أنه يحتاج إلى إعادة نظر وإصلاح جذرية، تساعد القطاعات المذكورة في التحرر من نفوذ ضعاف النفوس وهيمنة شبكات الفساد والمحسوبية والمحاصصة والإدارات الهزيلة، في الوقت الذي نحن أحوج ما نكون فيه أيضاً لتطبيقٍ متشددٍ للقوانين والأنظمة ومعايير الاعتمادية والحوكمة المعتمدة عالمياً على نشاط القطاع الخاص في التربية والصحة والتعليم.

6.    إعادة النظر بواقع قطاع نظام الضمان والرعاية الاجتماعية والتأمين في سورية، وتحويله إلى قطاع حقيقي عن طريق حوكمته، وإخضاعه لمعايير الجودة والاعتمادية الدولية.

7.    إخضاع مؤسسات القطاع الخاص والأنشطة التي يقوم بها، لمعايير الحوكمة العالمية، والتشدد في تطبيق القوانين والأنظمة المرعية التي تضبط إيقاع عمل مؤسسات وشركات وفعاليات القطاع الخاص.

8.    إجراء إصلاح نوعي جريء للنظام الضريبي، يتناوله في العمق، يساعد في تغيير مضمونه من نظام جباية للأموال إلى نظام ضريبي توزيعي وتنموي، محكوم بغايات وأهداف الخطط والبرامج الاقتصادية والاجتماعية التنموية.

9.    منح الصلاحيات الكافية لمجلس النقد والتسليف، والتأكيد على أهمية استقلالية المصرف المركزي، وامتلاكه الهامش والمرونة الكافية في تنفيذ السياسات التي تنسجم مع طبيعة المهام والأهداف.

10.    تفكيك بنية الاحتكار، وخلق بيئة اقتصادية تنافسية حقيقية، تساعد في تحقيق الإنصاف، ومبدأ تكافؤ الفرص للجميع.

إن تطبيق الإجراءات والتدابير السابقة المُشار إليها في المدخلين السابقين، يمكن أن يساعد في تحقيق وفر مالي كبير للدولة السورية، عن طريق الموارد الذاتية المُتاحة، هي في أمس الحاجة إليه، لأنه يقلل إلى حدٍّ كبيرٍ من حاجتها لمصادر التمويل الاستثنائية الداخلية والخارجية، المكلفة بلا شك سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.

تعليقات الزوار
  1. تعليقك
  2. أخبرنا قليلاً عن نفسك