موانئ دبي.. هل تصبح طرطوس بوابة سوريا إلى الاقتصاد الإقليمي
الاقتصاد اليوم:
وقّعت الحكومة السورية اتفاقية استراتيجية مع شركة “موانئ دبي العالمية” بقيمة 800 مليون دولار لتأهيل وتطوير ميناء طرطوس، في خطوة تحمل دلالات اقتصادية عميقة، وتؤسس لتحول نوعي في البنية التحتية للنقل البحري في البلاد.
هذه الاتفاقية التي وقعت بحضور الرئيس السوري، أحمد الشرع، الأحد 13 من تموز/ يوليو الجاري، بين الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية وشركة موانئ دبي العالمية، لا تمثل مجرد عملية تطوير لمنشأة حيوية، بل تفتح الباب أمام تحوّل شامل في بنية الاقتصاد السوري، يعوّل عليه لتحريك عجلة التبادل التجاري، وخلق فرص عمل واسعة، وتحفيز قطاعات الإنتاج والتصدير، وسط ظروف اقتصادية شديدة الصعوبة تعيشها البلاد منذ أكثر من عقد.
بحسب التصريحات الرسمية، فإن الاتفاقية تمثل نموذج تعاون استثماري جديد، يستند إلى مبدأ الشراكة المتوازنة بين الدولة السورية والمستثمر الأجنبي، حيث تبقى السيادة والإدارة بيد الحكومة السورية، بينما تتولى شركة موانئ دبي تنفيذ مشاريع التطوير والتشغيل وفق معايير دولية عالية.
من جهته، أوضح مدير عام الموانئ السورية، المهندس عدنان حاج عمر، أن الاتفاق يندرج ضمن إطار “عقد امتياز” يمتد لثلاثين عامًا، ويمنح الشركة حق الإدارة والتشغيل الكامل للمرفأ، مع التزامها بتقديم نظام تشغيلي شامل خلال ستة أشهر من استلام الموقع، كما يخضع لموافقة الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية، مشيرًا إلى أن القيمة الاستثمارية الإجمالية للاتفاقية تبلغ 800 مليون دولار أميركي، وفقًا لتصريحات نقلها عنه “عنب بلدي”.
وأضاف أن الشركة ستتولى كافة خدمات الميناء التجارية والتشغيلية، بما في ذلك رسو السفن، عمليات المناولة، تزويد السفن بالاحتياجات، وتخزين الحاويات والبضائع، إلا أن المهام ذات الطابع السيادي، كإدارة الملاحة، الأمن، والسيطرة البحرية، ستبقى تحت إشراف الدولة السورية بشكل مباشر، دون تدخل من الشركة المشغّلة، حفاظاً على سيادة القرار الوطني ومؤسسات الدولة البحرية.
وبيّن حاج عمر أن خطة الاستثمار ستتم على ثلاث مراحل رئيسية، تبدأ بأولى تمتد لأربع سنوات من تاريخ التسليم، وتستثمر خلالها الشركة 200 مليون دولار بمعدل 50 مليون دولار سنويًا، وتتبعها المرحلة الثانية باستثمار مماثل قدره 200 مليون دولار، ثم المرحلة الثالثة التي ستُرصد لها 400 مليون دولار أميركي، ما يرفع القيمة الكلية للاستثمار إلى 800 مليون دولار، تخصص لتحديث البنية التحتية، تطوير المحطات والأرصفة، وتزويد الميناء بالتقنيات الحديثة والمعدات اللازمة لتلبية المعايير الدولية في الشحن البحري.
عوائد اقتصادية
أما عن العوائد الاقتصادية المباشرة، فقد أوضح حاج عمر أن الدولة السورية ستحصل على نسبة 45 بالمئة من إجمالي إيرادات التشغيل، يتم تحويلها شهريًا بالعملة التي يتم بها التحصيل، سواء كانت بالليرة السورية أو بعملات أجنبية، ما من شأنه أن يسهم في رفد الخزينة العامة بموارد مالية ثابتة وذات طابع إنتاجي مستدام.
واعتبر حاج عمر أن هذا الاستثمار يشكل نقلة نوعية في تاريخ الموانئ السورية، ويفتح المجال أمام انطلاقة اقتصادية جديدة ترتكز على الشراكة النوعية والتشغيل المتخصص وتوطين الخبرات العالمية.
العوائد الاقتصادية للاتفاقية تمتد على عدة مستويات، فعلى المستوى المباشر، تشير التقديرات الأولية إلى تحقيق دخل سنوي يقدّر بنحو 45 مليون دولار للخزينة السورية من إيرادات تشغيل الميناء، وهو مبلغ قابل للزيادة مع تزايد حجم البضائع المتداولة.
مكاسب استراتيجية
أما على المدى المتوسط، فإن تطوير الميناء وتحديث قدراته اللوجستية سيُسهم في تقليص كلفة الواردات وتحسين زمن التوريد، ما ينعكس إيجابًا على أسعار المواد الأولية والمستوردة داخل السوق المحلية.
وعلى المستوى الاستراتيجي، فإن الاتفاقية تتيح لسوريا استعادة موقعها كممر تجاري حيوي في شرق المتوسط، خاصة وأن موقع ميناء طرطوس، قريب من خطوط الملاحة الدولية، وهو ما يؤهله لأن يكون محطة لوجستية تربط بين الأسواق الآسيوية والأوروبية.
وقد أشار رئيس مجلس إدارة موانئ دبي العالمية، سلطان بن سليم، إلى أن ميناء طرطوس قادر على التحول إلى أحد أفضل الموانئ في العالم، نظرًا لموقعه الجغرافي الفريد، لافتًا إلى نية الشركة ربطه بشبكتها المنتشرة في أوروبا، من فرنسا وهولندا إلى بلجيكا وألمانيا، ما يفتح المجال أمام تحول الميناء إلى عقدة توزيع إقليمية ودولية.
هذه النقلة النوعية، لن تقتصر آثارها على قطاع النقل البحري، بل ستنعكس على قطاع الصناعة أيضًا، إذ إن تسهيل حركة الاستيراد والتصدير سيساهم في دعم الصناعات المحلية التي طالما عانت من ارتفاع كلفة المواد الأولية وصعوبة التصدير.
إعادة الحياة إلى البنية التحتية
وفق ما أفاد به نقيب الاقتصاديين السوريين، محمد بكور، فإن تطوير الميناء يعيد الحياة إلى البنية التحتية شبه المعطّلة، ويمنح القطاع الصناعي دفعة قوية، سواء من خلال تقليص الزمن اللازم لوصول المواد الخام أو عبر تعزيز قدرات تصدير المنتجات المحلية، وهو ما يؤدي إلى تنشيط الاستثمارات، وزيادة فرص العمل، وتحقيق عائدات ضريبية أعلى، بحسب حديث تلفزيوني.
كما أشار إلى أن الاستثمار الجديد يأتي أيضًا متوافقًا مع متطلبات الاقتصاد المعاصر، حيث يركّز على تحديث المعدات وتوسيع الأرصفة وتعميق المياه، بما يمكّن الميناء من استقبال سفن الحاويات العملاقة، ويمنح الاقتصاد السوري منفذاً بحرياً منافساً.
بداية ضرورية
من جانبه، أوضح المستشار الأول لوزارة الاقتصاد والصناعة، الدكتور أسامة القاضي، أن ميناء طرطوس لم يشهد أي تطوير حقيقي منذ أكثر من عقدين، وأنه بحاجة ماسة إلى تحديث الرافعات والمرافق، وتأهيل العمالة وفق المعايير العالمية، معتبرًا أن مبلغ 800 مليون دولار هو بداية ضرورية، لكنه قد يحتاج إلى استثمارات لاحقة لضمان التحول الكامل للميناء إلى مركز دولي للخدمات اللوجستية.
وقال خلال حديث مع “تلفزيون سوريا”، إن إضافة إلى الأثر المباشر على التشغيل، فإن الاتفاقية تحمل بُعدًا تنمويًا بالغ الأهمية يتمثل في نقل الخبرات والمعرفة التقنية إلى الداخل السوري، فشركات إدارة الموانئ العالمية تعمل وفق أنظمة تشغيل متقدمة وتكنولوجيا عالية، ما يفتح المجال أمام الكوادر المحلية لاكتساب مهارات جديدة، تُعزز من كفاءتها في سوق العمل، وتمهّد الطريق أمام إنشاء منظومة لوجستية متكاملة في البلاد.
وقد أكد القاضي على أن قيمة “نقل الخبرة” تعادل ملايين الدولارات، لأنها ترفع مستوى القوى العاملة، وتقلص الفجوة التكنولوجية التي تعاني منها سوريا منذ سنوات.
تنمية المناطق الساحلية
أفاد القاضي بأن الاتفاقية تُعد محفزًا مباشرًا لتنمية المناطق الساحلية التي عانت من الإهمال، فالساحل السوري الممتد على نحو 80 كيلومترًا ظل خارج منظومة الاستثمار لعقود، واليوم، يعاد الاعتبار لهذا الامتداد الحيوي، من خلال إطلاق مشاريع تطوير الموانئ، وتأهيل الصناعات المرتبطة بالأنشطة البحرية، مثل إصلاح السفن وصناعة قطع الغيار والخدمات الملاحية، ومن شأن هذه الدينامية أن تخلق فرصًا جديدة للتنمية المتوازنة بين المناطق، وتخفّف الضغط عن المدن الكبرى.
وهو ما يجعل اتفاقية تطوير ميناء طرطوس تمثل خطوة استراتيجية باتجاه تحفيز الاقتصاد السوري، لا من حيث حجم الاستثمار فحسب، بل بما تحمله من إمكانيات هيكلية لتحسين التجارة الخارجية، وتنشيط القطاعات الإنتاجية، ورفع مستويات التوظيف، ونقل التكنولوجيا، وخلق بيئة أعمال قادرة على جذب استثمارات إضافية في المستقبل، هي باختصار محاولة جادة لاستعادة مرفق حيوي كان مهمّشاً، وتحويله إلى محرّك اقتصادي فاعل في مرحلة إعادة البناء.
|
تعليقات الزوار
|
|















